أقلام مختارة

عائلة الشيرازي وإيران.. الخلافات المبكرة 1

حسن المصطفى

وسط بيت متواضع، وفي زقاق ضيق، قرب شارع “چهارمردان”، بمدينة قم الإيرانية، استقبلنا بابتسامته المعهودة، المرجع الديني الراحل آية الله السيد محمد الشيرازي، العام 1994، نحن الذين حضرنا من شرق السعودية للتعرف على هذه الشخصية الجدلية، التي كانت تخضع حينها للإقامة الجبرية، بسبب الخلافات المتراكمة بينه وبين السلطات الإيرانية.
الشيرازي راح يتحدث عن أهمية “القلم” و”الكتابة” و”التأليف”، وأنه يجب على الشباب الاهتمام بنشر الثقافة والقراءة، وأن كثيرا من الحروب الحاصلة في التاريخ كان سببها عدم نشر الوعي والكتب.
زيارتنا انتهت لمنزل الشيرازي، وسط استهجان مني لم أبح به، تجاه نظرته التي اعتبرتها – وأنا الشاب المملوء حماسة – بسيطة وساذجة، فكيف يمكن أن يتغير العالم بالكتاب فقط، دون الكفاح بروح ثورية متقدة!. وقبل أن نخرج أهدانا مرافقوه مجموعة من الكتب، وغادرنا دون أن نلحظ وجودا أمنيا مشددا عليه، رغم أنه كان دائم المكوث في داره، حيث يعقد دروسه ويستقبل مريديه.
المنزل الذي تقع بالقرب منه حسينية تابعة له، كانت العام 1987 تكتظ بمجموعة من النازحين بينهم عدد كبير من الأطفال. هذا المنزل شهد واقعة يسردها لي أحد المتواجدين فيه حينها، قائلا “كنا مجموعة صغيرة برفقة السيد الشيرازي، ومعنا رجل دين من أفغانستان، وإذا بنا نسمع صوت صفارة الإنذار، وما هي إلا لحظات حتى اهتز المكان، وارتفع صراخ الأطفال، نتيجة قصف القوات العراقية لمدينة قم بصاروخ وقع بالقرب من المنزل الذي نحن فيه”، إبان حرب الخليج الأولى. ولكن كيف تصرف المرجع الشيرازي، يكمل الراوي قصته “هرع الشيخ الأفغاني تجاه إحدى الاصطوانات واحتضنها من الخوف وهو يصرخ يا الله يا الله. فيما السيد الشيرازي راح بهدوء يخفف من قلق الأطفال وصراخهم”.
أهمية هذه الواقعة ترتبط بما حدث تاليا، حيث غادر آية الله محمد الشيرازي بعدها مدينة قم، التي تحتضن الحوزة العلمية، متجها إلى مدينة مشهد، بناء على نصيحة من مجموعة من المقربين منه، خوفا منهم على حياته. كون مدينة مشهد تحتل مكانة “مقدسة” عند المسلمين الشيعة، كما أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وعد بعدم قصفها، لوجود ضريح الإمام الثامن علي بن موسى الرضا فيها.
ذهاب الشيرازي إلى مدينة مشهد أثار غضب السلطات الإيرانية، والتي اعتبرته موقفا “سلبيا” منه، وأن الأجدى به البقاء في مدينة قم إلى جانب الناس والرفع من معنوياتهم.
في 26 أكتوبر 1980 احتلت القوات العراقية مدينة “خرمشهر” الإيرانية، وبعد نحو 575 يوما استطاعت القوات الإيرانية استعادة المدينة في 24 مايو 1982، ما دفع السيد محمد الشيرازي إلى الدعوة إلى وقف الحرب بين بغداد وطهران، على اعتبار أن النظام الإيراني استرجع جميع أراضيه التي احتلتها القوات العراقية، وهي الدعوة التي رفضها الإمام الخميني.
الشيرازي الذي التقى الإمام الخميني في العراق 1965، كان من المؤيدين للثورة الإسلامية في إيران في فترة دعوة الخميني لها، وكان مؤمنا بنظرية “ولاية الفقيه”، وسافر إلى إيران بعيد انتصار الثورة 1979. إلا أنه منذ البداية كان ينصح أنصاره بعدم تسليم جميع أوراقهم إلى الحكومة الإيرانية، وأنه يجب أن تكون لهم استقلاليتهم.
كون الشيرازي مرجعية غير تقليدية، لها أنصار يملكون أحزابا سياسية، وجمعيات خيرية ودينية، يتواجدون داخل إيران وخارجها، وفي دول عربية خليجية، دفعه لأن يكون له طموحه الديني والسياسي، خصوصا أن بيوتات ومكاتب المراجع الشيعية طوال التاريخ كانت لها تقاليدها الراسخة في الاستقلال عن الأنظمة السياسية، وهو ما جعل بالعلاقة تبدء في “التوتر” بين مكتب الشيرازي في مدينة قم والسلطات الرسمية، وتحديدا “إطلاعات” (جهاز المخابرات الإيرانية)، بسبب وجود منطقين متضادين. الأول يريد أن يحافظ على استقلاله ولا يريد أن يخضع لأي سلطة تحد من حريته وتقيد تصرفاته، والثاني يريد لـ”الدولة” أن تبسط نفوذها وسيطرها تحت شعار “فرض النظام” على الجميع، وأن على مكتب الشيرازي أن يخضع للقانون الإيراني، الذي يحكم مختلف طبقات الشعب!.
هذه العلاقة المتوترة بدأت تأخذ طابعا تصاعديا، إلى أن برزت معالم سوئها تظهر للعيان العام 1984، ولتلقي تاليا بظلالها على العلاقة بين الشيرازي والخميني، مما دفع الأول للتخلي عن نظرية “ولاية الفقيه”، وتبني نظرية “شورى الفقهاء”، سعيا منه لكسر ما اعتبره احتكارا من الخميني للقرارات الكبرى في البلاد.
السلطات الإيرانية وفي أواخر سنوات ولاية الإمام الخميني وضعت الشيرازي تحت الإقامة الجبرية، بسبب انتقاداته المتكررة لسياسات النظام الإيراني الداخلية، وبسبب تداعيات قضية مهدي هاشمي الذي أعدم العام 1987، وهو الذي حكم عليه بالإعدام في محكمة ثورية، بعد أن كان مسؤول مكتب “حركات التحرر” بالحرس الثوري الإيراني، وهي الحركات التي كان من ضمنها عدد من التنظيمات التابعة لمرجعية الشيرازي.
بقي السيد الشيرازي تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في مدينة قم 2001. وهو رغم ذلك كان كما ينقل أفراد عايشوه، كان يوجه النقد تحت شعار “رحم الله إمرء أهدى إليَّ عيوبي”. حيث يؤكد لي مجموعة من الناشطين الذين كانوا ضمن تياره حينها، أنه لم يكن يستخدم لغة نابية أو شتائمية ضد الولي الفقيه السابق، أو المرشد الحالي علي خامنئي، رغم أن علاقته لم تكن جيدة معهما، على عكس التصريحات التي أطلقها أقطاب من عائلته، مثل السيد حسين الشيرازي، إبن المرجع الديني آية الله صادق الشيرازي، والذي اعتقلته السلطات الإيرانية في مارس الجاري، بعد أن شبه في محاضرة له آية الله خامنئي بـ”فرعون”.
مراسم دفن السيد محمد الشيرازي 2001، شكلت نقطة انعاطفة “سلبية” في العلاقة المتوترة أساسا بين آل الشيرازي وطهران، حيث حصلت مشادات أثناء عملية التشييع. ويروي لي أحد الحضور، كيف أن قوات الأمن تدخلت لتدفن الجثمان في حرم السيدة فاطمة في قم، على عكس ما تريد عائلته، والتي تدعي أنه أوصى بأن يدفن في منزله، لينقل رثاته تاليا إلى العراق، في حال تغير النظام هناك. فيما صحافي إيراني معارض، شهد الجنازة، يروي أن المراسم حظيت بحضور جماهير غفير، دون منع من السلطات الرسمية.
خطاب النقد “العنيف” تجاه سياسات طهران بدأ في التصاعد لدى عائلة الشيرازي، وتحديدا من السيد مرتضى الشيرازي، نجل المرجع الراحل السيد محمد، والذي كانت السلطات الإيرانية اعتقلته سابقا، ويروي أنصاره كيف أنه تعرض للإهانة والتعذيب. يضاف إليه عمه السيد مجتبى، الذي يقيم في العاصمة البريطانية لندن، ويعد شخصية متطرفة عقائديا، ويستخدم لغة “شتائمية” تجاه الساسة الإيرانيين ومن يؤيدهم، ولا يتورع عن استخدام ألفاظ نابية ضد خصومه السياسيين والعقائدين من المذاهب الإسلامية المختلفة.
السيد صادق الشيرازي، تولى منصب المرجعية خلفا لأخيه الراحل محمد، العام 2001، وهو شخصية عرف عنه بعده عن السياسة، واهتمامه بالفقه والمسائل الدينية بشكل عام. إلا أنه لم يستطع أن يكون شخصية لها حضورها الفكري والحركي مثل أخيه، ما جعل مرجعيته تبتعد ذات طابع كلاسيكي. قبل أن يعود إلى المشهد في مارس الجاري، إثر اعتقال نجله حسين، بعد أن استدعته في وقت سابق المحكمة الخاصة برجال الدين.
الوقائع السابقة هي تفاصيل بسيطة من صراع القوة والنفوذ بين آل الشيرازي والسلطات في إيران. فشهية التمدد وجذب المزيد من المؤمنين والأتباع التي كانت لدى آل الشيرازي وأذرعهم السياسية والخيرية والاقتصادية، واجهتها طهران بحزم، محاولة بسط سلطة “الدولة”، ومنع أي صوت معارض لولاية الفقيه، من أن يكون قويا أو مؤثرا. وهو الصراع الذي تدخلت فيه عوامل عدة، جعلته معقدا أكثر مما يعتقد كثير من المراقبين، من أنه مجرد خلاف بين مرجعيتين دينتين!.
لم تكن إيران بريئة، ولم يكن آل الشيرازي يخفون طموحهم الذي يفوق حجمهم الفعلي في الشارع الشيعي. كما أن أجهزة الأمن الإيرانية لم تستسغ أن تبقى متفرجة، وهي ترى أن الأصوات المعارضة تقوى يوما بعد آخر، دون أن يردعها أحد!.
هل الشيرازيون تيار واحد؟. سؤال ستتم مناقشته في الحلقة الثانية من سلسلة المقالات، التي تسلط الضوء على عائلة تشغل الرأي العام الشيعي منذ عقود عدة، وما زالت!.

*كاتب سعودي

نقلا عن العربية نت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق