عندما كانت تحلق الطائرة فوق أوروبا كان كل شيء ينذر بدنو الساعة وهبوط المسافرين أرض الجنة . هناك حيث لا ينقطع النظير عن جبال وسهول خضراء وأنهار وبحيرات ، ومزارع مرتبة ومنظمة ، ومساكن أسطحها قرميدية ، حمراء وخضراء . يبدو كل شيء تحت الطائرة عالي التنظيم والترتيب والتدبير . ومع كل اقتراب للرحلة نقطة الوصول تتلامس القلوب برائحة تراب عطرة يفوح منها الكثير من عبق الإنسان وعبق التاريخ …
نزلاء مطار بروكسل يشبهون العالم بملياراته السبعة ، من بينهم مؤمنون بالله وملحدون به ، وكل واحد منهم يحمل في عقله فهماً لله يختلف عن الآخر ، إلا أن المؤمنين يتفقون على أن الله واحد وغير متفقين في أفهامهم الدينية ، لأن الله أزلي مجرد خارج الزمان والمكان بينما الدين زمكاني محسوس . ولعل اختلاف الزمان والمكان والعقل الجمعي للإنسانية يشرحان الاتفاق على وحدانية الله وتعدد الأديان والأفهام الدينية في المعرفة الإيمانية . كما يشرحان الاتفاق والاختلاف في الأفهام الفلسفية حول الطبيعة وما ورائياتها ، والتنظيم الاجتماعي وسلوكياته …
مطار بروكسل باعتباره نزلاً مؤقتاً للإنسانية يجسد هذه الحقيقة المعرفية ـ الإيمانية والفلسفية في أبهى صورها من خلال معبد واحد لله الواحد ، في كل ركن من أركان مساحته الرحبة للإيمان مصلى لكل دين ( المسيحية ، الإسلام ، اليهودية ، البوذية ، الهندوسية ، الكونفوشوسية …) يتضرع المؤمنون ، كلُُ بطريقته ، لإلههم الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . في هذا المعبد تتمظهر جمالية الله في عقول البشر فيتحدون بوحدته بجمالية إنسانية تبرز أسمى قيم الأخلاق ( الكلُ لله واللهُ للكل ) .
خارج هذا المعبد يخلع المؤمنون كل خلافاتهم العقدية ، إلا أولئك المتطرفون المتعصبون الذين ربما يقودهم تطرفهم أو تعصبهم الدخول إليه ومعهم كل حمولة الحقد والكراهية لنسف هذه الجمالية بحزام ناسف أو قنبلة يدوية الصنع .
والملحدون بالله لا يقل جمالهم عن جمال المؤمنين به ، صحيح لا يدخلون المعبد لكنهم يكنون الاحترام والمحبة للذين يأمونه طالما هؤلاء يبادلونهم الاحترام والمحبة أيضاً . وكلهم ، الملحدون والمؤمنون ، يحملون قيم إنسانية واحدة ربما تشبه الإله الواحد الذي يعبده المؤمنون أو تشبههم هم ، ذواتهم ، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو الفلسفية . كلهم يحكمهم قانون المطار يجوبون أرجائه ، جيئة وذهاباً بانتظام ، يقضون حاجاتهم بحرية ، لا يعطلهم اختلاف اللغة أو اللهجات ، فكل شيء واضح وشفاف وله دلالاته . العاملون والعاملات فيه وجوههم بشوشة ، تشع حباً وإنسانية ، يشعر المسافر أنه يعرفهم منذ زمن بعيد . ربما تربطه بهم أواصر صداقة أو قربى . أما الذين يرتدون البزة العسكرية فأناقتهم لا تعبر عن انضباطهم فحسب بل تعكس روح العلاقة الأخلاقية بينهم وبين رواد المكان .
قد يطول انتظار المسافر هناك لكنه لن يشعر بالضيق أو الملل . وإذا كانت إقامته فيه قصيرة يتمنى لو تتأخر طائرته عن الرحيل . يتوقف الزمن في مطار بروكسل لأن الشخوص ليست الشخوص بينما الوجوه هي ذات الوجوه . تقلع طائرة وتهبط أخرى ، وكلها تحمل معها أماني وذكريات جميلة . وربما يحمل البعض حسرة ، أو غيضاً ، في داخله ، لأنه قد لا يعود إليه مرة أخرى ، ولكن يبقى الأمل في أن تصير كل الأماكن شبيهة بذلك المكان البديع.
إذا كان مطار بروكسل نزلاً مؤقتاً فسورية نزل دائم لكل السوريين ، الذين يشبهون نزلاء مطار بروكسل ، فهم غير متجانسين ، معرفياً ، سواء بالمعرفة الإيمانية ـ الدينوية أو المعرفة المادية ـ الدنيوية ، بمشيئة الله أو بمشيئة الطبيعة . وأن تفرض عليهم حكومتهم منهجاً تعليمياً ـ تربوياً وإعلامياً ـ توجيهياً واحداً من أفهام معينة إنما يخالف جدلية وحدانية الله وتعددية الأديان والأفهام ، وجدلية التنوع والاختلاف في البنية الاجتماعية الواحدة.
في التعليم : تعليم أفهام دينية إسلامية معينة في مراحل التعليم الأولى من خلال مناهج التربية الدينية . وتعليم أفهام سياسية معينة من خلال مناهج التربية القومية .
في الإعلام : كل البرامج الدينية مخصصة لأفهام دينية معينة ، ولأفهام سياسية محددة .
أمام هذا التناقض الفظيع الذي يرسخ الاستبداد السياسي والديني ويولد صراعات اجتماعية وسياسية وينشئ أجيالاً تتنابذها هذه الصراعات ، علاوة على ضرب أسس الوحدة الوطنية من جذورها ، مما يهدد الوطن بالتمزق والتشريخ الاجتماعي والعضوي والعقدي الدينوي ، لابد من الفصل بين الأفهام الدينوية والأفهام الدنيوية لأنه يريح المجتمعات التي يلعب فيها الدين دوراً مؤثراً في تكوين وعي الناس وتنميط سلوكياتهم ومعاييرهم الحياتية. فمن جهة لا يساء فهم الدين كونه حالة إيمانية لا تخوض غمار الحياة كونها حالة فلسفية .ومن جهة ثانية لا تعطل الأفهام الدينية اليقينية مسيرة الحياة المتغيرة والمتبدلة. ومن جهة ثالثة فإن هذا الفصل يتيح فرصاً متساوية للأفهام الدنيوية لتتفاعل مع بعضها في سيرورة الحياة الفلسفية . لذلك حتى يضع مجتمعنا قدمه على بداية الطريق المعبدة بالزهور إلى جنة الأرض التي تمتزج فيها رائحة التراب بعبق الإنسان والتاريخ ، فلا مندوحة من :
1 ـ عدالة توزيع المناهج التعليمية والبرامج الإعلامية ، الدينية والسياسية ، بين جميع الأديان والأفهام الدينية وبين جميع مكونات البنية الاجتماعية الأثنية والسياسية ، لأن النظام التربوي ( تعليم وإعلام ) هو الأساس الذي يشاد عليه الهيكل المجتمعي العام .
2 ـ أو استبدال المناهج التعليمية الدينية بمناهج الأخلاق باعتبارها مشتركاً بين جميع الأديان والمذاهب والأفهام الدينية ، واستبدال مناهج التربية القومية بمناهج الفلسفة والمذاهب السياسية ، لأن الفلسفة والأخلاق تنميان ملكات العقل الجمعي وتحرره من العبودية بمعناها السياسي والديني ، وتنقيان الذاكرة الجمعية من الشوائب الثأرية بالتعامل مع مخزوناتها في حدود زمكانتها . ومع تنويع البرامج الإعلامية ، الدينية والسياسية التي تعزز أواصر الوحدة الوطنية ، وحرية التعبير ، واحترام الرأي والرأي الآخر ، وتشجيع الإبداع والابتكار والتجديد ، والحوار الوطني الخلاق ، و حوار الأديان والمذاهب ، وحوار المكونات الاجتماعية يتمكن المجتمع من فتح انسداداته في سيرورة تطوره التاريخي والطبيعي .
3 ـ أو إلغاء مقررات التربية الدينية والتربية القومية وإضافة وعائها الزمني لمقررات الموسيقى والفنون التشكيلية والرياضة أو للتدريب المهني والتقاني في المدارس ، لأن الفنون والمهارات بألوانها المختلفة تنمي الروح الجمعية الجمالية المكملة لكل من ملكات العقل الجمعي ونقاء الذاكرة الجمعية .
أما أولئك الذين لا يردهم عقلهم ـ إن كان عندهم عقل ـ عن تفجير ذلك المكان الذي خصصه قانون المطار لعبادة الله الواحد من جميع الأديان والأفهام الدينية المتعددة ، بحزام ناسف أو بقنبلة يدوية الصنع ، أو استخدام أسلحة أكثر فتكاً لإرهاب البشر وارتكاب جرائم ضد الإنسانية بدواعي دينية أو سياسية ، فإنهم نتاج منظومة المجتمع التقليدي ، الذي يغيب العقل الجمعي ويقتل الروح الجمعية ويعكر صفو الذاكرة الجمعية . ولم يأتِ هؤلاء أبداً من خارج المجتمع ، وإن كانوا يشكلون أدوات قذرة يستخدمها الخارج ـ كما الداخل ـ لمنع أية فرصة لفتح انسداداته ، أو لتوجيه رسائل أمنية بين الدول تحمل مضامين سياسية .
إذن ، إما عدالة التوزيع للمناهج التعليمية الدينية والسياسية على قاعدة التنوع والاختلاف ، أو أن الدين مكانه دور العبادة ، والسياسة مكانها الأحزاب . أما المدرسة فهي مكان للتعليم والتدريب والتربية الأخلاقية والوطنية فقط ، والجريدة مساحة واحدة مشتركة لحرية التعبير لكل الأفهام السياسية والثقافية والفلسفية . كل هذه الخيارات ممكنة ومرغوبة للخروج من أزمة المجتمع القيمية سواء على مستوى منتجات العقل الجمعي (المعرفة) ، أو على مستوى منتجات الروح الجمعية (الجمال) ، أو على مستوى الذاكرة الجمعية (الأصالة).
إن الله الواحد خلق الإنسان على صورته الحالية وخلق معه العقل المجرد على صورته المجردة فلا يجب أن يفسد تعدد الأديان والأفهام الدينية للود قضية الله الواحد المجرد ، الذي لا يدركه الإنسان إلا بالاستدلال العقلي ، ويفترض أن يُحب بالاستدلال الجمالي الذي يسمو بقيم الحب والخير والتعاون بين البشر إلى مستوى الإنسانية . أما عبادته ، كل بطريقته ، فهي إرادة إلهية لو شاء الله توحيدها لوحدها على صورة وحدته جل جلاله .
وأما النظام التعليمي والنظام الإعلامي التربويين فهما عمليتان معقدتان ، من صنع البشر ، إذا لم يشبها التنوع والاختلاف في المجتمع فإنهما يفسدان قضية الوحدة الوطنية وتطور المجتمع ، التي يجب ألا تخضع لجدلية التنوع والاختلاف بل لحقيقة وحدة الله .
كاتب سوري واكاديمي في الاقتصاد