وليد العمري
ليس عنوان المقال مجازا نضيفه الى طوفان المجازات التي لا غاية منها سوى التهرب من قول الاشياء كما هي او التلويغ اللافت للنظر في احسن الاحوال،فبالاضافة الى المحرقة التي اسعرتها زيادات الاسعار الثورية في هذا البلد الذي يحتفل بليلة دخلة ديمقراطية لا تبزغ لها شمس،فان اشد الشرائح الاجتماعية هشاشة و تدنيا في سلم الهيبة المهنية تتعرض بشكل وحشي للقتل البطيء و التنكيل و التمثيل عبر الحرمان من الحق في الشغل و ذلك باسم المصلحة الوطنية التي يهددها الاقتصاد الغير مهيكل، فما هو الاقتصاد الغير مهيكل ؟ما هي اسباب انتعاشه و توسعه ؟و ماهي ممكنات التعامل معه ؟
بشكل عام يقول الاقتصاديون ان هذا الضرب من الاقتصاد يشمل جملة انشطة مختلفة التفاوت في شفافيتها او ضبابيتها،لكنها تشترك في عدم خضوعها للنظام الضريبي،او توفيرها لظروف عمل غير لائقة مع اجر اقل من الاجر الادنى المقنن،و لكنهم يختلفون في مقاربته،فهناك مقاربة ثنائية تقول ان هذا الاقتصاد هو نظام اعاشة يشغل الفقراء الذين اقصاهم اقتصاد السوق،و منهم البنيويون الذين يرون انه اقتصاد يتفاعل مع الشركات المنظمة عبر تزويدها باليد العاملة و الموارد الاخرى باسعار تفاضلية بما يزيد في تأجيج التنافس،و منهم القانونيون مثل هرناندو دو سوتو الذي يرى ان الاستجارة بالاقتصاد غير المنظم هو نتيجة للموانع القانونية المجحفة التي تعيق عن الاندماج في الاقتصاد المنظم.
لكن لا بد ما لمن اراد ان يحيط بهذه الظاهرة اكثر من التراجع خطوات نقدية بمراجعة مسلمات مضللة في هذا الشأن، فاذا كان الباحث الاجتماعي هو الذي يدرس التغيرات في تمثل الواقع من مجموعة الى مجموعة،والفيلسوف يمحص الرموز التي تستخدم للامساك بالواقع كما ذهب الى ذلك بيتر لقمان،فسنمارس في هذا النص بعضا من كلا الصنعتين،اذ لا بد ايضا من مراجعة العلاقة بين الدوال و المداليل (و نعني هنا مثلا العلاقة بين الدولة كمشروع و نظرية و الدولة كما نعيشها يوميا في الادارات و مع الموظفين العموميين الخ الخ ) حين الحديث عن الاقتصاد الغير منظم و ذلك لتجنب الوقوع في فخ هيمنة اللغة التي تجبرنا على التفكير من خلالها و ايضا حذرا من اعادة انتاج المسلمات الدارجة ، و هي اما مسلمات عفوية نابعة من الحس المشترك،او انها مسلمات/مغالطات استثمار ايديولوجي،و تتقاطع هذه المسلمات في موقفها من الدولة باعتبارها الضمانة الوحيدة الأشد امنا و عدلا لتحقيق العيش المشترك، ان التطلع الى الدولة يشبه تطلع الطفل الى الأب المريض او العاجز و العجوز الذي يجب عليه،رغم ان ذلك قد يقع او لا يقع ضمن حدود امكانياته،ان يوفر بحبوحة العيش لأبنائه،لكن كانط قد نبهنا الى ان الأبوة هي اعظم اشكال الاستبداد التي يمكن تخيلها،و يتمظهر هذا الاستبداد اكثر في وسائل الاعلام التي لا تنفك اقلامها و افواهها تذكرنا بواجبات الدولة تجاه المواطن واجبات المواطن تجاهها،و ليس غريبا ان تشترك هذه الاقلام و الوجوه في جملة من الخصائص الاجتماعية التي تتمظهر من خلال خطاب وعظي يذكرنا بعبارة والتر بنجامين،شيئان لا يمكن تلافيهما،الضرائب و الموت،فالدولة\الطبيعية تضمن الحق في الموت، بالمقابل يجب تشحيم دواليبها بالضرائب لتستمر في البقاء و الاستقواء بما ان الدولة تمثل كل ماهو عادل و خير،و عليه ان كل ما يخرج عن رقابة الدولة و نظامها و معاييرها هو مجرم بالضرورة، لكن الحس المشترك لا يجرم النشاط في اطار الاقتصاد اللاشكلي و التجارة الموازية و حتى التهريب بما ان عديد السلع يفضل الافراد اقتنائها عبر هذه المسالك لانخفاظ الكلفة،فالتجريم و الادانة هي وظيفة رجال القانون و خبراء الاقتصاد من انصار اليد الخفية،يعاضدهم فيلق من الاعلاميين و السياسيين لينتجوا خطابا يعبر عن تموقع اجتماعي محدد ،لكن الامر ليس بهذه البساطة في الواقع،اذ سنبين في هذا المقال ان الدولة هي اكبر خطر على ذاتها،و لا نعني بأن ممثلي الدول هم الذين يخرقون القانون،بل لأن تطبيق القانون حرفيا هو الذي ساهم في ظهور الاقتصاد الغير منظم..
دائما ما يتميز الخطاب الرسمي بجملة مغالطات و تلبيس تماما مثلما تلتبس الامور على منتجيه حين يستخدمون عبارة الدولة و الحكومة كمترادفات،و الالتباس يظهر ايضا في النقاشات التي تدور حول الاقتصاد الموازي حين التلاعب بمنطق السببية،و ذلك بالادعاء ان ان هذا الضرب من الاقتصاد هو السبب في عجز اقتصاد السوق الذي تنظمه الدولة على ادماج الافراد، لكن النشاط في اطار الاقتصاد اللاشكلي و الغير منظم لا يمكن مطلقا تعميم الجزم بأنه السبب الأول و الأساسي في الاضرار بالاقتصاد المنظم،اذ يمكن في حالات كثيرة ان يكون انتشار الاقتصاد اللاشكلي هو الذي نتج عن الاقصاء الذي يمارسه الاقتصاد المنظم اما عبر تراجع طاقة استيعاب حقل الوظيفة العمومية او عبر صعوبة النفاذ الى الاشتغال في القطاع الخاص او الاستثمار فيه.كما نبه ذلك هرناندو دو سوت منذ ست سنوات و حذر من الحواجز القانونية و الادارية التي ترهب المستثمرين و الراغبين في الاندماج في الاقتصاد المنظم المفرط في وطنيته،فيختارون العمل بشكل غير منظم مع الاعتماد فقط على العلاقات الخاصة في المبادلات مما ،كما ان مجموعة الازمات الدولية نشرت في ماي من الشهر المنقضي ما يبين ان دار لقمان قد بقيت على حالها،فهناك حسب التقرير اكثر من مائتين و عشرين مرسوما نافذا القصد منه منع الوصول الى الاقتصاد الوطني،مثل قانون المنافسة و قانون التحفيز على الاستثمار،اما الوصول الى القروض فهو متاهة بيزنطية لان موظفي البنوك لا يثقون الا بمن يعرفونه معرفة خاصة لان ساكنة الجهات المهمشة غير موثوق بهم،كما ان الموظفين العموميين لا يترددون حسب الدراسة في تجميد او تحرير قانون اذا تعلق الامر برشوة او مكافأة مالية،او كان الشخص المتقدم اليهم مسنودا بشخصية نافذة،و هذا الوضع يجعل من المستثمرين الصغار مضطرين للانخراط في شبكة علاقات تغلب عليها الزبونية او منطق اعطيني نعطيك.
ان المغالطة الثالثة المتداولة في الخطاب الرسمي هو المزج و الخلط بين الاقتصاد الغير مهيكل و الاقتصاد الممنوع،ففي كثير من الدول النامية قد تتعمد الحكومات غض النظر عن كثير من النشيطين في اطار الاقتصاد الغير مهيكل رغم ما يمكن ان يعود به من مداخيل للميزانية،و ذلك لأن التدخل في هذا القطاع او ذاك و تقنينه يمكن ان يجيء بنتيجة عكسية،لذلك نجد ان ميدان البرمجيات في الهند يشغل ملايينا من اليد العاملة التي توفر القدر الهائل من العملة الصعبة،لكن الحكومات في الهند تغض الطرف عن هذا القطاع الغير منظم،اي لا قانوني،لكنه ليس اقتصادا للممنوعات بل هو على العكس من ذلك يطرح للتداول خدمة او صناعة مشروعة.كما ان التهريب الذي يغذي التجارة الموازية في تونس قد استغله زين العابدين بن علي بمطلق البراغماتية ،و نشير خاصة الى التهريب من البلاد الغربية الذي يفوق امتداده التسع مئة كيلومتر،اذ لم تكن وحدات الجيش و الامن قادرة على تأمين تلك الحدود اثناء الحرب الاهلية الجزائرية مما اضطرها الى ابرام معاهدة صلح و توافق غير معلن مع المهربين المقيمين في القرى و الدشر المتاخمة لتلك الحدود لتأمينها عبر الابلاغ عند ملاحظة اي تحرك مشبوه،لقد كان السماح جزئيا بالتهريب و التجارة الموازية في المناطق الحدودية حلا ترقيعيا لتعويض غياب التنمية و خلق فرص الشغل. و قد استفادت ايضا المناطق السياحي في الساحل من التهريب على الحدود التونسية الجزائرية مثلا عبر تزود النزل بالخمور الفاخرة باسعار تفاضلية.
لقد نشرت ايضا مجموعة الازمات الدولية في احدى تقاريرها مقتطفا من مقابلة مع مهرب صرح فيها انه ليس من مصلحته ادخال مواد ممنوعة او اسلحة الى التراب التونسي لأن ذلك سيتسبب في احداث بلبلة على الحدود مما يضر بسير نشاطه. فالاستثمار في شيطنة الاقتصاد الغير مهيكل شأنه في ذلك الاستثمار في خرافة الفساد و مقاومته،هو استراتيجية مراقبة و معاقبة و تصفية حسابات بين ذوي النفوذ كما هو معتاد في تاريخنا المكتظ بالمجازر الصامتة.
ليس غريبا ان تستمر قرطاج في احراق قسط من ابنائها قربانا بشريا للاله مولوخ في العام الارمل،و رغم انه قد حل محل مولوخ رب اخر رحيم،لازال الكثير ممن لم تشملهم رحمة الدهر يكفرون عن وجودهم باضرام النار في اجسادهم،و لكن بعد ان يكون قد تقدم بهم السن،مثلما هو حال البوعزيزي الذي نشب فيه اللهب بعد ان فات وقت اجهاضه،و قبل ان يحين وقت ذبحه بمدية الصبر،لكن الشاب الاخر ايمن العثماني هو ايضا كان منذورا للموت المبكر بما انه ضعيف الطاقة راسخ في الفاقة،و اسألوا اهل الذكر من عن انخفاض امل حياته عند الولادة،شأنه شأن كل معطل عن الحياة،او مصاب بوباء الشغل الهش.
*كاتب من تونس