أقلام يورابيا

ما لا ينبغي أن تعرفه عن سوق الشغل

وليد العمري

وليد العمري

اذا كان وزير التشغيل ذكيا،فمن الأسلم له ان يستخدم ببساطة عبارة سوق الشغل حتى يتجنب المشاكل المترتبة عن الاشارة الى علاقات القوى التي تتحكم بخلق مواطن شغل و تحديد الاجور و ساعات العمل. ينزع حرفيو الاقتصاد و مرتزقة السياسة الى الاستخدام المكثف لمصطلح سوق الشغل للدلالة على تقاطع مستقيمين متوازيين لا يلتقيان بالصدفة الا ضمن علاقة استغلال،اذ بما ان العرق بضاعة شأنه في ذلك شأن كل سلعة ذات قيمة ،يصبح من البداهة ان توجد لهذه السلعة سوق تسمح بتداولها،بيعها و شرائها وفقا لقواعد مفصلة قانونيا كي تلائم خصر المصلحة العامة و تجيء على مقاسها الراقص،و تتحدد قيمة العمل وفقا لمتغيرات العرض و الطلب،فكلما ازداد العرض من العمال باليد و الساعد و نقص الطلب عليهم من المشغلين كلما تدنت الاجور و العكس صحيح مبدئيا على الورق.

و رغم ان وفرة العرض و الطلب في سوق الشغل تمكن من الوصول الى التنافس المثالي،فانه يمكن التأكد من خلال اختبار الفرضيات الخمس التي يعرفها اهل الاختصاص ان التنافس في هذه السوق ليس مثاليا و نقيا ،فالسوق الحرة التي تنظمها اليد الخفية لم توجد الا في مخيالات علماء الاقتصاد النرجسيين،بل توجد قوانين تتدخل في عقود الشغل و تحدد سلما للاجور و في حالات اخرى استثنائية يكون تحديد قيمة العمل نتيجة للتفاوض .ثم ان متتبع تاريخ سوق الشغل في أي بلد بامكانه ان يستشف انه اكثر الاسواق تراجيدية و كثيرا ما تؤججه الاحتجاجات و الاضرابات و سائر التحركات السلمية و المسلحة المطالبة اما بزيادة الاجور او بخفض ساعات العمل او المساواة في الفرص و تحسين ظروف العمل،فالعمل ليس سلعة مثل السلع،و اذا كان سلعة،فهي لا تباع كما ذهب اليه ماركس،بل تكترى كما شرح ذلك لوران كوردونيي في كتابه المعنون بلا شفقة على البؤساء حول نظريات اقتصاد البطالة ،و جدير بالذكر ان كوردونيي قد استعرض في هذا الكتاب منطق المدرسة الاقتصادية النيوكلاسيكية .

ان الاشكال الذي يدمغنا اذن حين نفترض ان هناك بالفعل سوقا للعمل- مماثلا لسوق النخاسة- مؤداه ان السلع تختلف في طرق انتاجها و مسالك توزيعها و تكاليف تداولها و شروط استهلاكها،فالمرء لا يشتري الخبز بذات الطريقة التي يبتاع بها الادوية،او السلع المهربة،و بالمثل،فان سوق المواد المخدرة غير شفافة و يتطلب النفاذ اليها شروطا مخصوصة .فالطالب المستجد في علم الاقتصاد قد يجد نفسه مضطرا الى تبني نموذج اختزالي و تجريدي و تعميمي لفهم كل الظواهر،و تبرز هيمنة و غواية هذا النموذج حين لا يتورع البعض عن استخدام عبارات من قبيل السوق الثقافي،سوق التربية او حتى سوق الزواج.و لهذا السبب سنطرح في هذا المقال فكرتين اساسيتين اولاهما استحالة تصور سوق للعمل حتى مع اعتبار انه يشهد تنافسا غير مثالي ،و الثانية ان اجراء دراسة عن مسالك البحث عن وظيفة بامكانها ان تكشف عن كثرة من اسواق الشغل لكل واحد قانونه المتفرد و نظامه الخاص ، فلا ينبغي ان يأمل المرء في الالتحاق بتنظيم ارهابي و هو يعول على مكاتب التشغيل او ان يأمل من الاعلانات في الجرائد ان تزف اليه مناظرة انتداب رؤساء حكومة .

لا مناص من التذكير ان فرادة العمل تكمن في انه ليس فقط نشاطا منتجا يقع كراؤه بمقابل مادي طيلة ساعات معينة،بل هو الحالة الاجتماعية للشخص و هي تمكن من تصنيفه في سلم التراتبيات الاجتماعي،فالتعريف بالذات يبدأ دائما بالتعريف بالمهنة،و الوعي الجمعي ان جازت العبارة يمكن من رسم الملامح العامة للشخصية وفقا للمهنة،فالسياسيون انانيون ليسوا اهلا للثقة،و رجال الأمن اجلاف قساة،و الفنانون ودعاء،و هلم جرجرة.و لهذا السبب فان الاجر الذي يتقاضاه الموظف قد لا يكون مهما اذا ما قورن بوزنه في سلم الهيبة المهنية ،كما ان الفائدة الجماعية الناتجة عن العمل الذي يقوم به عامل بناء اثمن من تلك التي يمكن ان نجنيها من فنان او نائب بالبرلمان.فقيمة العمل مثيرة للجدل و لا يمكن اخضاعها ،هذا اذا حالفنا الحظ، الا جزئيا لمنطق السوق،فحتى اذا كانت الكفاءات و المهارات الفردية التي يتطلبها العمل غير متوفرة الا عند قلة قليلة من الذين ضحوا من اجل اكتسابها،فهذا يحيلنا الى ان اطرافا عدة و يعسر حصرها تلعب دورا مباشرا او غير مباشر في تهيئة الافراد لوظيفة معينة و التحاقهم بها،كأفراد العائلة،و المدرسين،زملاء الدراسة و الاصدقاء و كل ما يقع ضمن شبكة العلاقات الخاصة و المهنية، ، لقد القى الرئيس الأمريكي أوباما في حملته الانتخابية بروانوك في فيرجينا سنة الفين و اثني عشرة خطابا سنقتطع منه هذه الشذرة التي تنسف اوهام امكانية الخلق من العدم و الاستثراء من الفراغ،و تقض مضجع المستغرقين في هذيان الحلم الأمريكي.

يقول أوباما “ان كنت ناجحا،فلأن هناك شخصا ما منحك يد العون في مشوارك.لأن هناك معلما عظيما في مكان ما في حياتك،هناك شخص ما ساهم في ارساء هذا النظام الأمريكي الخارق للمعتاد،و الذي سمح لك بأن تترعرع.هناك شخص ما استثمر في الطرقات و الجسور،اذا اصبحت صاحب اعمال فهذا يعني انك لم تقم ببنائها،اذ هناك شخص آخر جعل هذا يحصل”… فمجال العمل و الأعمال ليس عقدا حرا و اعتباطيا بين مشغل و مشتغل بقدر ماهو منجز جماعي متشابك،او هي ظاهرة اجتماعية كلية او شاملة بلغة مارسال موس،اي انها ظاهرة تستنفر كل مؤسسات المجتمع،السياسية و الاقتصادية و القانونية و حتى الدينية و الجمالية في احيان اخرى كثيرة.

كثيرا ما يلام فقهاء السوسيولوجيا على انهم يقولون ما يعرفه الجميع بلغة لا يفهمها احد،و لهذا السبب تحديدا لا مناص من الرجوع الى الخلف لمراجعة خصائص هذا المصطلح الذي لا يستخدمه المتخصصون و غيرالمتخصصين للدلالة على الشيء ذاته، السوق يعني في المتداول العامي مجرد فضاء محدد تباع فيه السلع و تشترى،لكن السوق لها وظائف اخرى كامنة ،فهي تجرد الافراد من العلاقات الشخصية و تحيدهم،فهي فضاء يصبح الجميع فيها غرباء و لا يربطهم ببعضهم الا البضاعة و ثمن البضاعة ،و حتى اذا حدث استثناء في تحديد السعر فهذا لا يخل بالقانون العام للسوق،اي ان السعر و البضاعة يستحوذان على المجال المكاني و الزمني الذي يقع فيه التبادل،ان التاجر في التاريخ الاقتصادي دائما ما ارتبطت صورته بالغريب كما بين ذلك جورج زيمال في نصه المعنون باستطراد حول الغريب،فلا توجد علاقة حميمية بين البائع و المشتري لأن طبيعة السوق تجردهم من اية شخصنة ممكنة،لكن سوق الشغل لا تعمل بهذه الطريقة، فحين يتعلق الامر بتأجير قوة العمل،تتدخل اطراف عديدة لابرام وتنظيم و تعديل هذه العلاقة بين الأجير و مؤجره،و يلعب الوسطاء دورا ثقيلا في الربط بين الطرفين،و يمكن ان تتمثل هذه الوساطة في مكاتب التشغيل الحكومية او الخاصة،او حتى في جمعيات لاحكومية تعمل حتى على مساعدة المتقدم لوظيفة على تحسين صياغته لسيرته المهنية و تقييمها،و يندر جدا في القطاع الخاص تحديدا ان تكون الاعلانات او الترشح العفوي هي التي تمكن من الحصول على الوظيفة.

اذا كانت شبكة العلاقات هي الضامن الانجع للحصول على وظيفة،فان العبارة التونسية المتداولة “الخدم لازمها المعارف” تصبح اصدق من هذيان وزراء التشغيل و خبراء الاقتصاد من مرددي خرافة سوق الشغل،فالأفراد(كما نفهمهم من زاوية السوسيولوجيا العلائقية على الأقل) ليسوا خاضعين بشكل مطلق للمقولات المجردة كالمجتمع،المؤسسات،السوق،و ليسوا ايضا مزودين بآلات حاسبة تمكنهم من الاستعمال الانجع لمواردهم من اجل تحقيق اضمن النتائج،كما يردد ذلك انصار نظرية الخيار العقلاني،بل كل فاعل اجتماعي هو مؤثر و متأثر في علاقاته اليومية،و هذا التفاعل هو الذي يؤثر على المعتقدات،و السلوكات و ايضا على الموارد التي يتم الحصول عليها، و لاستثمار هذا النموذج وفق ما يقتضيه السياق، سنشير الى ذلك النص كلاسيكي في علم اجتماع الشبكات كتبه عالم الاجتماع الامريكي مارك غرانفوتار في سبعينات القرن المنصرم و يبحث في الكيفية التي ينقب بها الافراد عن وظيفة،و بما ان عروض الشغل التي تنشر في الصحف و الاعلانات محدودة جدا تبقى هناك احتمالية ايجاد معلومات عن عروض اخرى لدى المعارف،و قد خلص غرانفوتار الى ان العلاقات السطحية و الضعيفة لها دور اكبر من العلاقات الثقيلة حين يتعلق الامر بالبحث عن وظيفة.ان ما يمكن ان نخلص اليه مما تقدم انه توجد لكل واحد سوق شغله الخاص،تختلف بوضوح عن اي سوق اخرى.

رغم استخدامنا لنموذج نظري قد يبدو مقنعا و متماسكا للبعض،و ضبابيا،مفتقرا الى التفصيل للبعض الآخر،تبقى هناك عوامل اخرى بنيوية و تاريخية تمكن من تحديد كيفية عمل عالم العمل،و اشتغال الشواغل ،سواءا كان ذلك متعلقا بالتاريخ الجماعي،أو بالتاريخ المستبطن للافراد و سيرهم الذاتية،اولئك الذين قيل بأنهم سواسية ،حتى و ان تساوى بعضهم اكثر من بعض.

المراجع:

*Pas de pitié pour les gueux, Laurent cordonnier

*Sociology for Dummies, Jay Gabler

* The Myth of Individualism, Peter L. Callero

* 21st century sociology: A reference handbook .Clifton D. Bryant, Dennis L. Peck

 

*كاتب من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق