السلايدر الرئيسيتحقيقات

المسؤولون اللبنانيّون يتوافدون تِباعًا على موسكو.. والروس يبحثون عن بوّابتهم الحيويّة في بيروت!

جمال دملج

– بيروت – من جمال دملج – على رغم أنّ افتتاح موسم الحرب الروسيّة على الإرهاب في سوريا يوم الثلاثين من شهر أيلول (سبتمبر) عام 2015 جاء في ظلّ استفحال الأزمة الداخليّة اللبنانيّة الناجمة عن بدء مرحلة الشغور الرئاسيّ قبل ذلك التاريخ بقرابة الخمسة عشر شهرًا، فإنّ قواعد الاشتباك التي تمكَّنت قاذفات الـ “سوخوي” من فرضها في الفضاء السوريّ منذ الأيّام الأولى، مصحوبةً بما تحقَّق من إنجازاتٍ ميدانيّةٍ لافتةٍ على الأرض، سرعان ما أدّت إلى تحفيز عددٍ كبيرٍ من المسؤولين الرسميّين والحزبيّين اللبنانيّين على تنشيط خطوط اتّصالاتهم السياسيّة مع موسكو، أملًا في استقراء ملامح وأبعاد الحضور الاستراتيجيّ المتفاعِل باضطرادٍ لإدارة الرئيس فلاديمير بوتين على الساحة الشرق أوسطيّة، الأمر الذي كانت له مردوداته الإيجابيّة الواضحة على أكثر من صعيدٍ، بدءًا من تقوية دعائم مبدأ التوافق الدوليّ والإقليميّ على تحييد لبنان عن مخاطر الاحتراق بلهيب صراعات المنطقة، مرورًا بتشجيع المؤسّسة العسكريّة اللبنانيّة على الدخول إلى عالم الأمن الاستباقيّ عن طريق دعم إنجازاتها اللافتة، فنّيًّا ولوجستيًّا، في مجال تفكيك الخلايا الإرهابيّة الصاحية والنائمة في الداخل وضبط الحدود مع سوريا على حدٍّ سواء، ووصولًا إلى تسوية أزمة الشغور إثر تمكُّن وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف من لعب دورٍ بارزٍ في إقناع الرئيس سعد الحريري أثناء لقائهما في موسكو يوم الرابع من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2016 بدعم ترشيح الجنرال ميشال عون لسدّة رئاسة الجمهوريّة، بما من شأنه أن يؤدّي في نهاية المطاف إلى حلحلة العقدة الرئاسيّة التي كان قد مضى عليها أكثر من عامين من الزمان، وهو ما تحقَّق بالفعل قبل نهاية الشهر نفسه، علمًا أنّ الجهد الذي بذله الوزير لافروف في هذا المجال لم يكن يعني على الإطلاق أنّ بلاده تقف مع طرفٍ ضدَّ طرفٍ آخَر من مكوِّنات الصيغة اللبنانيّة بقدْر ما كانت ترغب في إحياء مؤسّسات الدولة وتصويب إبرة بوصلتها نحو الاتّجاه الصحيح.

المنافس القويّ

ولعلّ الزيارة التي قام بها رئيس “تيّار المردة” سليمان فرنجيّة لموسكو الأسبوع الماضي تُعتبَر من بين أهمّ الدلائل القاطعة على أنّ المسؤولين الروس دائمًا ما يضعون المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة العليا فوق كلّ الاعتبارات عن طريق رسمِ خطوطٍ بيانيّةٍ للإبحار في مضائق الأزمات الداخليّة وفقًا لمسارٍ متوازنٍ يهدف إلى تقريب وجهات النظر بين الخصوم المحلّيّين، ولا سيّما أنّ هذا الضيف الآتي من أحد معاقل الطائفة المارونيّة المحصَّنة في شمال لبنان كان قبل عامين المنافس الأقوى للجنرال عون على كرسيّ الرئاسة في قصر بعبدا، ناهيك عن أنّ اسمه لا يزال يتصدَّر قائمة الترشيحات المحتمَلة في المستقبل، الأمر الذي يفسِّر سبب تخصيصِ ساعةٍ كاملةٍ لجلسة الحوار التي جمعته مع الوزير لافروف بحضور المبعوث الرئاسيّ إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ميخائيل بوغدانوف وعددٍ كبيرٍ من المستشارين، تمامًا مثلما يفسِّر أيضًا سبب الحرص الروسيّ على استقراء آرائه الشخصيّة حيال شؤون الإقليم وشجونه، وهو الحرص الذي ما لبث أن تجلّى بوضوحٍ عندما خاطبه الوزير لافروف قائلًا: “لدينا اهتمام بتقييمكم للوضع في المنطقة، خصوصًا في البلدان المجاورة، أقصد بذلك سوريا في المقام الأوّل، ونحن سنكون على استعدادٍ لتقاسم الجهود التي تبذلها روسيا للمساعدة في حلّ الأزمة في سوريا بأقربِ وقتٍ ممكنٍ”، قبل أن يؤكِّد له أنّ “روسيا، شأنها شأن جميع أصدقاء لبنان المخلصين، رحَّبت بالانتخابات البرلمانيّة التي أجريت في أيّار (مايو) من هذا العام، والتي سمحت بإنهاء الأزمة السياسيّة الطويلة”، موضِحًا أنّه “عندما يتواصل تشكيل الحكومة على أساس هذه الانتخابات، من المهمّ جدَّا بالنسبة إلينا أن نسمع تقديراتكم حول احتمالات التوصُّل إلى الاتفاقيّات ذات الصلة، لأنّ الاستقرار في لبنان يعتمد على ذلك، وقدرة اللبنانيّين على تقرير مصيرهم من دون تدخُّلٍ خارجيٍّ” في شؤونهم الداخليّة.

سامي الجميّل

اللافت من بين الدلائل القاطعة على توازن السياسة الخارجيّة الروسيّة حيال لبنان أنّ مسؤولي وزارة الخارجيّة سرعان ما استقبلوا قطبًا آخَر من أقطاب الطائفة المارونيّة متمثِّلًا برئيس “حزب الكتائب اللبنانيّة”الشيخ سامي الجميّل الذي وصل إلى موسكو الأسبوع الماضي أيضًا للمشاركة في عيد “الوحدة الوطنيّة” الذي يجمع كلّ مكوِّنات روسيا الاتّحاديّة مع القيادة الروسيّة بحضور الرئيس بوتين والبطريرك كيريل، قبل أن يعقد سلسلةَ لقاءاتٍ على هامش الاحتفال مع المبعوث الرئاسيّ بوغدانوف وعددٍ من كبار المستشارين في وزارة الخارجيّة وغيرهم من المسؤولين عن ملفّ الأحزاب الشرق أوسطيّة في مجلس الدوما، وهي اللقاءات التي تركَّز البحث خلالها على استعراض وضع المسيحيّين في الشرق وضرورة حماية وجودهم في إطار الشرعيّة الدوليّة وتعزيز دورهم بعيدًا من لعبة المحاور والتحالفات، إضافةً إلى الملفات المطروحة على الساحة اللبنانيّة، بدءًا من ضرورة حماية لبنان من تداعيات الوضع الأقليميّ، مرورًا بمساعدة الدولة على النهوض لكي تقوم بدورها منعًا لانهيار البلد، وانتهاءًا بملفّ النازحين السوريّين الذي كان حزب الكتائب سبَّاقًا في التطرُّق إلى قدرة روسيا على لعب الدور الأساسيّ في مجال عودتهم إلى ديارهم، ولا سيّما أنّ الشيخ سامي كان قد زار موسكو في أوج أزمة الشغور الرئاسيّ وتداعياتها على مسألة مستقبل الأقليّات في لبنان والشرق الأوسط عام 2016، ناهيك عن أنّ المسؤولين الروس يكنّون لعائلته كلّ الاحترام منذ ذلك اليوم البعيد من عام 1972 عندما نجحَت جهود الديبلوماسيّ السوفييتيّ المخضرم فويتشلاف ماتوزوف في ترتيب أوّل زيارةٍ رسميّةٍ قام بها والده الشيخ أمين الجميّل لموسكو، أيْ قبل أحد عشر عامًا من وصوله إلى سدّة الرئاسة في قصر بعبدا، بحسب ما أبلغني به ماتوزوف نفسه بشكلٍ شخصيٍّ في السابق.

الملفّ الدرزيّ

وإذا كانت هواجس الأقليّات في منطقة الشرق الأوسط لم تقتصر على الطوائف المسيحيّة وحدها بل طالت طائفة الموحِّدين الدروز أيضًا، فإنّ موسكو، ومع إدراكها الكامل لحالة الانقسام التي شهدتها الزعامات السياسيّة التقليديّة لهذه الطائفة بين مؤيِّدٍ ومعارِضٍ للحضور الروسيّ المتنامي على الساحة السوريّة، أبقت أبوابها مشرَّعة على الدوام لاستقبال الجميع، الأمر الذي تجلّى خلال شهر آب (أغسطس) الماضي في الزيارتين اللتين قام بهما على التوالي كلٌّ من رئيس “الحزب الديمقراطيّ” طلال أرسلان ورئيس “الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ” النائب تيمور جنبلاط، علمًا أنّ أجندات الزيارتين أظهرت بوضوحٍ أنّ المسؤولين الروس كانوا ميّالين لضيفهم الأرسلانيّ الذي حظي بلقاءٍ مطوَّل مع وزير الدفاع سيرغي شويغو وبجولةٍ خاصّةٍ داخل “غرفة عمليّات سوريا” في مقرّ الوزارة، أكثر ممّا كانوا ميّالين لضيفهم الجنبلاطيّ الذي سبق له أن رافق والده وليد جنبلاط في زيارةٍ مماثِلةٍ قبل سنتين من أجل الاعتذار من القيادة الروسيّة على مفرداتٍ استخدَمها زعيم المختارة ووصلت إلى حدِّ التطاوُل على الرئيس بوتين شخصيًّا، وهو الاعتذار الذي استوعَبه الروس أملًا في فتح صفحةٍ جديدةٍ مع حليفهم القديم، قبل أن يُجدِّد هجومه عليهم خلال مراسم تقبُّل التعازي التي نظَّمها في بلدة “عبيّه” عن أرواح شهداء مجزرة السويداء في شهر تمّوز (يوليو) الماضي عندما حمَّلهم مسؤوليّة الدم الذي سُفك في المحافظة الجنوبيّة السوريّة، مشبِّهًا ما حصل هناك بما كان قد حصل في الشيشان قبل أكثر من ثمانية عشر عامًا، وذلك في تأليبٍ واضحٍ للدروز اللبنانيّين والسوريّين على الدور الروسيّ في الإقليم.

ثوابت الكرملين

لا شكّ في أنّ القيادة الروسيّة تدرك جيّدًا أنّ ترسيخ دعائم الاستقرار على الساحة السوريّة له بالغ الأثر في المحافظة على الاستقرار اللبنانيّ، وبالتالي في تطمين الأقليّات على مستقبلها في هذا الشرق الحافل بالصراعات الدامية، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ هذه الصراعات ما زالت تواصُل إطلاق نذائرها الموبؤة بنزعات سياسات الإقصاء والإلغاء، وهي السياسات التي دفعت وزير الدفاع الروسيّ إلى الإعلان أمام ضيفه الأرسلانيّ عن أنّ “روسيا لا تتعامل مع الشعب السوريّ كفئاتٍ منقسمةٍ طائفيًّا وإثنيًّا ومذهبيًّا، بل ككتلةٍ واحدةٍ”، بمعنى أنّ الحديث عن حمايةٍ دوليّةٍ لمحافظة السويداء، وفقًا لما دعا إليه وليد جنبلاط، “هو دعوةٌ مقنَّعةٌ لتدخُّلٍ غربيٍّ في الشأن السوريّ غيرِ مقبولٍ روسيًّا”، الأمر الذي لا بدَّ من أن ينطبق بالتالي على وضع الأقليّات في لبنان.

على هذا الأساس، وبالنظر إلى أنّ روسيا ظلَّت تنظر إلى لبنان وتتعامل معه على الدوام، منذ الحقبة السوفييتيّة ولغاية الآن، باعتباره وطنًا لرسالةٍ يُفترَض أن يتجلّى في طيّات سطورها العيش المشترك بين كافّة أبنائه بأجمل أشكاله، وتربةً خصبةً لزراعة ثقافة التسامُح والسلام، ومثالًا يُحتذى به، ليس بالنسبة إلى الدول العربيّة التي تعيش فيها طوائفُ وقوميّاتٌ وإثنيّاتٌ مختلفةٌ وحسب، وإنّما بالنسبة إلى روسيا التي تُجسِّد فوق مساحاتها الشاسعة مشهديّات هذه التعدُّديّة أيضًا، يُصبح في الإمكان تفهُّم أبعاد الموقف الذي كان نائب رئيس المجلس الفيديراليّ الروسيّ ألكسندر تورشين قد عبّر عنه خلال زيارته لبيروت في شهر أيّار (مايو) عام 2007 عندما شدَّد على “ضرورة النأي بلبنان عن التدخّلات الخارجيّة وتركه ليحلّ مشكلاته الداخليّة بنفسه”، تمامًا مثلما يُصبح في الإمكان أيضًا استحضار أسس الثوابت التي قامت عليها العلاقات بين موسكو وبيروت منذ الحقبة السوفييتيّة ولغاية اليوم، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة ما رواه الشيخ خليل تقي الدين، وهو أوّلُ سفيرٍ للبنان لدى الاتّحاد السوفييتيّ بعد الحرب العالميّة الثانية، عندما أشار في كتابه “مذكّرات سفير” إلى أنّ لقاءاته مع المسؤولين السوفييت كانت “تتّسم بالمودّة، ويغيب عنها الاستعلاء أو الدونيّة، ولا تشبه اللقاءات التي تتمّ عادةً بين ممثّلي دولتين إحداهما كبرى والأخرى صغرى”.

البوّابة الاقتصاديّة

وإذا كان هذا التوصيف الدقيق قد تجلّى على أرض الواقع خلال الزيارة التاريخيّة التي قام بها الرئيس اللبنانيّ (السابق) ميشال سليمان لموسكو في شهر شباط (فبراير) عام 2010، والتي اكتسبت الصفة التاريخيّة باعتبارها الأولى من نوعها لرئيسٍ لبنانيٍّ منذ الاستقلال عام 1943، وذلك على خلفيّة ما تمّ التطرُّق إليه أثناء مباحثاته مع الرئيس الروسيّ (وقتذاك) ديمتري ميدفيديف من ملفّاتٍ هامّةٍ، بدءًا من الاتّفاق على تنسيق المواقف بين لبنان وروسيا من أجل تسوية نزاع الشرق الأوسط وفقًا لقرارات مجلس الأمن الدوليّ وعلى أساس مرجعيّة مدريد ومبادرة السلام التي تبنَّتها القمّة العربيّة في بيروت عام 2002، مرورًا بوضع نقطةِ ارتكازٍ لانطلاقِ مسيرة تنمية التعاون بين البلدين في شتّى المجالات العسكريّة والاقتصاديّة، ووصولًا إلى الحرص الذي تبلورت نتائجه في الآونة الأخيرة من خلال تقديم كافّة أشكال الدعم لمؤسّسة الجيش اللبنانيّ وغيرها المؤسّسات الأمنيّة، فإنّ كلّ ما تقدَّم إنْ دلّ إلى شيءٍ، فهو يدلّ إلى أنّ لبنان ظلَّ حاضرًا على الدوام في الحسابات الاستراتيجيّة الروسيّة لكي يشكِّل البوّابة الاقتصاديّة لروسيا إلى العالم العربيّ.

شهادةٌ للتاريخ

وفي هذا السياق، فإنّ المراقبين الذين قُدِّر لهم متابعة مسار العلاقات الروسيّة – اللبنانيّة على مرّ السنوات الطويلة الماضية، وإنْ كان الكثيرون منهم يعرفون أنّ الرئيس فلاديمير بوتين دائمًا ما كان يعبِّر عن أمله لدى استقباله المسؤولين اللبنانيّين في أكثرَ من مناسبةٍ، ومن بينهم رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري ونجله سعد، بأن يستعيد لبنان موقعه الطبيعيّ كأحد المراكز الماليّة الرئيسيّة في الشرق الأوسط والعالم بأسرعِ وقتٍ ممكنٍ، ولكنّ ما يعرفه القليلون هو أنّ فيكتور غيراشينكو، رئيس البنك المركزيّ السوفييتيّ والروسيّ فيما بعد، الذي ترأّس فرع البنك الموسكوفيّ الشعبيّ الروسيّ في بيروت منذ شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1967 ولغاية شهر كانون الأوّل (ديسمبر) عام 1971، غالبًا ما كان يقول أمام الجميع إنّ الخبرة المصرفيّة التي اكتسبها في لبنان، لم يستطِع نيْل ما يوازي قيمتها في ما بعد، لا في بريطانيا ولا في ألمانيا… وحسبي أنّ هذه القيمة اللبنانيّة المضافة والجليّة في النظرة الروسيّة إلى أصول الاحتراف في العمل المصرفيّ العالميّ، لا بدّ من أن يأخذها زوّار موسكو في الوقت الراهن على محمل الجدّ إذا ما أرادوا أن يُعيدوا للبلد رونقه باعتباره الوطن – الرسالة وليس الوطن – صندوق البريد… والخير دائمًا من وراء القصد.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق