حازم الأمين
في لحظات اليأس لا بأس بالاستعانة على الشدة بالوهم. حين يتراءى لنا بلدنا (لبنان) كمشهد فشل على كل المستويات، تلوح حقيقة لا تخفف من ثقل المشهد إنما تساعد على تصريفها في قنوات نفسية تتولى امتصاص ارتدادات الكارثة. ففي مقابل الفشل المتواصل والممتد إلى مختلف مجالات عيشنا، والزاحف إلى مستقبلنا، ما زلنا في لبنان قادرون على الصراخ، وهو صراخ غير مثمر في معظم الأوقات، إلا أنه يرسم أفقا لخيارات وأوهام تعيد إنتاج طاقتنا على الرفض.
بالأمس انتزع طفل من حضن أمه بقرار من المحكمة الجعفرية التي ارتأت أن الحضانة تعود للوالد، وحكم على الأم بالسجن ثلاثة أشهر لامتناعها من تنفيذ قرار المحكمة! تحولت قصة الأم ريتا شقير إلى قضية رأي عام، شاركت في السجال حولها كل الطوائف. صورة الولد ممسكا بأمه لا يريد إفلاتها كانت سببا لتعاطف واسع مع الأم، وحينها خجلت الطائفة الشيعية، وأعادت إصدار حكم يقضي بحق ريتا بالحضانة.
هذه قصة نجاحٍ لنظام “الحق بالجهر” في لبنان، توازيها قصص فشل كثيرة، لكن يبقى أن للمجاهرة قوة تمتص احتمالات انهيارنا في مواجهة فشلنا. فبالأمس أيضا ارتكب جهاز أمن الدولة في لبنان فضيحة مدوية أهان فيها ذكاء اللبنانيين، ولا يبدو أن الصراخ سيكون مفيدا على هذا الصعيد. فقد اقتحمت عناصر من هذا الجهاز محلا لتصفيف الشعر واعتقلت عاملا فيه بتهمة أنه مصاب بفيروس الإيدز، وأنه يتعمد نقل الفيروس إلى زبائن المحل. ملابسات الواقعة مذهلة، ذاك أن الجهاز المذكور أصدر بيانا نصح فيه زبائن المحل بإجراء فحوص للتأكد ما إذا كان الفيروس قد انتقل إليهم. وجاء قرار القاضي صادما، ذاك أن الإصابة بفيروس الإيدز ليس تهمة يساق أصحابها إلى السجن بموجبها، كما أن تعمد نقل الفيروس لم يكن صحيحا، ذلك أن أيا من الزبائن لم ينتقل إليه!
وصلت الفضيحة إلى ذروتها عندما تعمد هذا الجهاز الأمني تسريب القصة محرفة إلى الإعلام، الذي سقط مرة أخرى في فخ حسابات أجهزة الأمن، معتديا بذلك على الشاب حامل الفيروس وعلى كرامته وسمعته، وملمحا لاحتمالات اشتراكه بـ”مؤامرة خارجية”، على الوطن وعلى صحة أبنائه!
وراء هذه القصة طائفة أيضا؛ ذلك أن جهاز أمن الدولة، العصي على المحاسبة، سبق أن سقط قبل أشهر بفضيحة مجلجلة، هي فضيحة اتهام الفنان زياد عيتاني بالعمالة لإسرائيل، وتبين حينها أن القضية لفقت له من ألفها إلى يائها. وحينها ظهر من يقول: “رئيس جهاز أمن الدولة مسيحي، ومحاسبته تعني محاسبة المسيحيين، وهذا ما لن نسمح به”. وبالفعل أعفي الجهاز من أي محاسبة على اعتدائه على كرامة مواطن وعلى حياته وحريته، وها هو اليوم يكرر الفضيحة، مستعينا بحصانة الطائفة.
صحيح أن هذه قصة فشل، لكن ها نحن نصرخ بوجهها وبوجه لبنان. في هذا الصراخ شحنة علاجية تعيننا على تصريف الكرب وعلى إخراجه من نفوسنا والمجاهرة به.
كثيرون من أبناء الإقليم محرومون من فرصة الصراخ. وهذا يصنع فارقا، ذلك أنهم مختنقون مرتين؛ الأولى بحقيقة أنهم يعيشون، كما نحن، في ظل أنظمة الفشل والفساد والاستبداد، والثانية بواقع منعهم من الصراخ في وجه فاسديهم ومستبديهم. وهنا يبدو لي، أنا اللبناني الخَرِب والمنتهكة حقوقه بفعل وقوعه خارج طائفته، أن منع الدول أهلها من الصراخ لا يقل كارثية وصعوبة عن منعهم من الانتخاب والمحاسبة والعيش بكرامة. صحيح أن الفضل بالسماح لنا بالصراخ يعود إلى ضعف بلدنا وإلى قوة الطوائف فيه، إلا أن ذلك لا يخلو من بعض العافية التي لا فضل لأحد في إتاحتها.
ثم أن القول إن لا قيمة لهذا الصراخ وإن لا قوة تصويبية له، صحيح؛ لكن ليس في كل الأحوال. الصراخ في وجه أمن الدولة لم يثمر محاسبة، إلا أن الصراخ في وجه المحكمة الجعفرية أعاد لريتا ابنها. الإنجاز لم يكن كبيرا، ولم يرق إلى مستوى البحث بقانون يعدل قوانين الأحوال الشخصية، إلا أنه ساهم في علاج جرح أم وفي إنقاذ طفل، ولهذا قيمة تعويضية تشعرنا بأنه وفي مقابل الفشل الكبير والهائل الذي نعيش في ظله، ثمة قصص نجاح صغرى تعيد شحننا ببعض الأمل.
وفي سياق النجاحات الصغرى بموازاة الفشل العام والكبير، فإن زياد عيتاني الضحية الأولى لجهاز أمن الدولة، استعان على جرحه الكبير بتقنية الصراخ نفسها، فهو اليوم بصدد إنجاز عمل مسرحي “صراخي” يعرض فيه ما جرى له، علّه بذلك يعالج بعضا من الخراب الذي ألحقته به الدولة اللبنانية المتشكلة من أجهزة أمن الطوائف ومن محاكمها الروحية والمذهبية.
الحُرة