أقلام يورابيا
أوراق عمانية تجاه قراءة معمقة للساحل الهادئ.. الشخصية العمانية وأعباء الجغرافيا
علي سليمان
– لندن – من علي سليمان – ولد الدكتور علي الأمين المزروعي الذي يعتبر بين الصف الأول من المختصين بالدراسات الإفريقية في مدينة مومباسا الكينية الواقعة على المحيط الهادي سنة 1933 لأسرة تولت مناصب رفيعة في كينيا، ومن الصعب الإحاطة بتاريخ ارتحال الأسرة التي أنجبت هذه القامة الفكرية من عمان إلى كينيا، ولكن يمكن قراءة بعض أوراقها، فأبوه وجده كانا في أرفع مناصب القضاء الشرعي في كينيا، ومن هذا الموقع كانا يحتلان مكانة بارزة في الأرستقراطية الكينية بجانب الكثير من العائلات التي تعود أصولها إلى عمان، وتمثل السلاطين العمانيين الذين امتلكوا تأثيراً كبيراً في منطقة الساحل الإفريقي.
ورث الدكتور المزروعي الذي كتب عنه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية” تقاليد فكرية عميقة كانت تحتفظ بذاكرة متجذرة لمحطة نشطة في مسيرة الصراع في المحيط الهندي، وكان عمانيو الخارج يحظون بهامش أوسع من الحرية من نظرائهم الذين تبقوا في عمان في مرحلة تصاعد الصراع السياسي على المنطقة بعد الحقبة الاستعمارية والتي استلزمت انكفاءاً لا يليق بموقع عمان وتراثها، ولكن الكمون لم يكن يعني أفولاً للدور العماني، فعلى العكس من ذلك، يسجل التاريخ أن عمان تواصلت بوصفها من أقرب النماذج العربية لمفهوم الدولة المعاصرة مع الولايات المتحدة سنة 1840 من خلال الرحلة الشهيرة التي شهدت استقبال ميناء نيويورك القديم للسفينة سلطانة، وشهدت الرحلة الطويلة زيارة لوفد رسمي عماني لجزية سانت هيلانة التي دخلت التاريخ هي الأخرى عندما شهدت نفي ووفاة امبراطور فرنسا وأعلى قاماتها التاريخية نابليون بونابرت.
وصفت الصحافة الأمريكية هذه الزيارة في ذلك الوقت بأنها الفرصة الأولى للتعرف على الحضارة العربية بما حملته من دهشة للأمريكيين، فكان العمانيون يخوضون المجهول بجرأة غير اعتيادية بالنسبة للأمريكيين الذين كانوا يعيشون أيضاً في اختمارهم الخاص، وعملاً روتينياً بالنسبة للعمانيين الذين استطاعوا أن يفرضوا وجوداً زخماً في المحيط الهادي وشرق افريقيا، فسندباد حسب معظم التأويلات كان عمانياً أو انطلق على الأقل من عمان في رحلاته البحرية، ولم تكن رحلاته مجرد قفزة في فراغ، بل تعبيراً عن واقع حال جعل عمان في قلب حركة التاريخ في العصر الوسيط.
لم يكن لسلطنة واسعة الأطراف والنفوذ أن تكون دون عقل مركزي يستطيع أن يحتفظ بهويتها وتمايزها، وكان البحر هو الهاجس الرئيسي أمام عمان، فالجغرافيا البرية جعلتها محاطة بفضاء من التضاريس الصعبة، ولذلك لم تشهد عمان عملياً مرحلة الفتوحات الإسلامية، وأتى دخول الإسلام ليعبر عن تفاهم عميق بين القبائل العمانية والمفاهيم المعنوية الإسلامية، ولذلك ترسخت القناعة الدينية الوسطية لدى العمانيين، وأنجزوا دوراً مهماً في نشر الإسلام، ودون قتال أيضاً، في مناطق بعيدة مثل أندونيسيا وماليزيا.
الشخصية العمانية عايشت الصراع النفسي العميق والعنيف بين الانفتاح على البحر، والعزلة في البر، واستطاعت أن تحتفظ بالتوازن الدقيق على امتداد العصور، ولذلك فإن الإمبراطورية الفارسية تمكنت من دخول اليمن من خلال استغلال التناقضات القائمة بين مكوناتها السكانية، وهو ما تجنبته عمان من خلال خلق معادلتها الخاصة للتجانس والانسجام والتي بقيت واحدة من أسرار العمانيين العميقة.
الشخصية العمانية منفتحة بحذر، هادئة، متوازنة، معتدلة، ولكنها صعبة الفهم، فلدى العمانيين تاريخهم الخاص للغاية الذي أبقاهم رقماً صعباً على امتداد تاريخهم.
يانا الهوا يانا
زنجبار، واحدة من أجمل جزر العالم، كانت جزءاً من السلطنة العمانية المتسعة، وبقيت في الغناء الشعبي في عمان والمناطق المحيطة بها، فالأغنية يانا الهوى يانا من زنجبار (تلفظ الياء جيماً لدى بعض القبائل في عمان ومحيطها) ما زالت تحمل بصمات من التراث العماني الكبير، وعلى الرغم من محاولات عمان النشطة الدخول في القرن العشرين بصورة مناسبة إلا أن المشاركة في حربين عالميتين من خلال التحول إلى محطة تموين للإمبراطورية البريطانية من مستعمراتها في الهند وآسيا لم يكن في الأجندة العمانية، الأمر الذي أدى إلى تآكل النفوذ العماني في افريقيا وآسيا، وإلى انكفاء كبير في الاقتصاد العماني، وصل إلى ذروته في الخمسينيات والستينيات ومع صعود حركات الاستقلال في العالم الثالث، وتمثلت واحدة من الضربات التي وجهت إلى عمان في فقدانها لسلطنة زنجبار التي كان سلطانها ينتمي إلى أسرة البو سعيد.
قابوس، أكتاف مثقلة بالتاريخ
بعد سنوات من الترحل بين عمان وبريطانيا عاد الابن الوحيد للسلطان سعيد بن تيمور قابوس إلى عمان للاستقرار سنة 1964، وهي نفس السنة التي فقدت السلطنة نقطة سيطرتها الكبرى في افريقيا، زنجبار، وضمن التقاليد التراتبية العمانية بقيت الحداثة السياسية والإدارية التي يسعى لها الابن مقيدة أمام سياسة الانكفاء التي ترسخت لعقود من الزمن مشروعاً غير مكتمل، ولكن كانت لحظة الحقيقة وشيكة بالنسبة للسلطنة مع انطلاق ثورة تحرير ظفار، وهي لم تكن مجرد صراع سياسي أو حدودي، ولكن امتحان وجودي أمام العمانيين، فالثوار الذين حملوا المبادئ الماركسية تجاه تحقيق دولة أحلامهم لم يكونوا يدركون الطبيعة العمانية التي لم تكن تعاني أصلاً من التأزم السائد أمام فوضى التشظي في اليمن، كما لم تكن تعايش أزمات طبقية عنيفة، فالعمانيون شعب يمكن أن يوصف بالاعتدال حتى في تطلعاته الاقتصادية، يتصرف في بلده وكأنه في سفينة تحتاج لكل ضروري وللأكثر فعالية واستدامة.
عايش قابوس الذي أصبح سلطاناً بعد حركة شعبية واسعة مرارة الصمت أمام التحديات الكبرى لسنوات جعلته ينكب على الدراسة والتأمل، ويتعرف على أعماق بلاده تاريخياً وجغرافياً، ولذلك فإن تفسير منهجه السياسي لا يمكن أن ينفصل عن تلك السنوات الساخنة وتقلباتها، حين انطلقت ماكينة التشويه التي وجدت صداها لدى اليسار العربي للمساس بالسلطان الشاب لتجعله رمزاً للرجعية العربية في مفارقة أمام سعيه الحثيث والطموح للحداثة، وأمام الأبواب المفتوحة لكل تدخل في ظفار كان السلطان قابوس يعتمد على سياسة هادئة وحذرة جعلته يجسد مقولة الرجل الذي يتسامح ولكنه لا ينسى.
نعم السلطان لا ينسى أعداءه ولا أصدقاءه أيضاً، فالأمر يتعلق بالخبرة التي جعلته يحافظ على بلد يستمر في التقدم بكثير من الهدوء، وكانت زوادته النفسية تتعلق بالتسامح، ولذلك لم يتخذ موقف المقاطعة تجاه أي دولة عربية في حمى الخلاف بالمقاطعة، ولم يكن طرفاً في أي تحالف، صديقاً للجميع ضمن حدود الفارق في الخبرة والثقة الذي أبقاه دائماً خارج التصنيفات التقليدية.
المسافة التي يحرص السلطان على استبقائها جعلته يبتعد عن التواجد في مدارات الشخصيات الطاغية شعبياً مثل جمال عبد الناصر وصدام حسين، ولذلك كان الشخصية التي يمكن اللجوء لها في الظروف الصعبة لأنه ببساطة لا يحمل رصيداً ثقيلاً من التورط أو التهافت، وتصريحاته وكلماته معظمها وجهت للعمانيين بينما كانت شحيحة، وإن كانت حاسمة، في الخارج كموقفه لدى رفضه مقاطعة مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد.
موتسارت في مسقط
لم يسجل التاريخ أسفاراً واسعة للموسيقار النمساوي موتسارت، وربما مضت حياته القصيرة دون أن يسمع عن مسقط، وبقيت شهرته محدودة أصلاً في الأوساط العربية بما جعل الأخوين الرحباني يمارسان اعتداءاً مستمراً على موسيقاه دون شعور كبير بالذنب، إلا أن الوضع يختلف قليلاً في مسقط، فضمن اصرار السلطان على الحداثة والانفتاح كان التلفزيون العماني يذيع من وقت لآخر عزف الاوركسترا السلطاني الذي كان يعد المنبر الوحيد في الثمانينيات لوجود الموسيقى الكلاسيكية بالمعنى المحترف في المنطقة العربية.
تأسست الاوركسترا سنة 1985 برسالة تسعى لنشر كلاسيكيات الموسيقى العالمية لدى العمانيين، ولتسجل أيضاً استضافة لمجموعة من الموسيقيين رفيعي المستوى من أجل استلهام عبق عمان وتراثها في أعمال موسيقية تقدم هذه السلطنة للعالم بذائقة مختلفة.
ماذا بعد؟
قطعت السلطنة شوطاً كبيراً دون أن يكون ذا ضجيج مرتفع، ودون ميول استعراضية، وفي ظل وجود اكتمال للصف الأول والثاني وراء السلطان فإنه أخذ يشكل المرجعية والضمانة لعمان التي استطاعت أن ترسي قواعد وخبرات يمكن أن تستعيد دوره في التعامل مع التحديات الخارجية وتجنب محنة السقوط في التعصب الديني والخروج من حلبة الحرب الباردة دون خسائر جسيمة من أجل أن تحافظ على الاستقرار، ولكن الهدوء العماني الذي استلزمته مرحلة طويلة من التأسيس والتحديث بدأ يتحرك نوعاً ما مؤخراً، الأمر لا يرتبط فقط بتواجد السلطنة كوسيط سياسي عقلاني ومتوازن، يتصرف كشريك وليس مجرد منسق، ولكنه يمتد لأدوار اقتصادية بدأت تظهر في عودة الطيران العماني إلى حلبة المنافسة وسط حرب الترانزيت بين الدوحة ودبي، وربما تعود عمان إلى محطات أخرى دون أن تدخل الصراع إلا بشروطها الخاصة التي يمكن أن تحول إلى منافسة منضبطة أو حتى تعاون أوسع، فوراء بوابات مسقط الكثير والكثير.