سناء العاجي
الأسبوع المنصرم، نشرت في موقع الحرة مقالا بعنوان: “#آسية_بيبي: جرعة الماء التي تقتل”. تلقيت بعد نشره تعليقات كثيرة على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.
المثير أن أغلب تلك التعليقات كانت تصب في اتجاه واحد؛ أن قصة آسية بيبي غير حقيقية، وأنني فبركتها من أجل إهانة الإسلام والمسلمين… فانهالت عليّ الدعوات والشتائم ومختلف أشكال العنف.
بعيدا عن شخصي وعن ذاتيتي، يعبر هذا السلوك الذي يتكرر من قبل كثيرين عن حالات مرضية، ربما علينا أن نتعاطى معها ببعض الجدية.
اليوم، أصبحت الوسائل التكنولوجية المتطورة تسمح لنا جميعا، بنقرة على غوغل، بالتأكد من مختلف المعطيات والتفاصيل المرتبطة بقضية أو حدث ما، قبل أن نتفاعل مع مقال أو كتاب أو شريط بخصوص تلك القضية. هذا السلوك إيجابي لأنه، إلى جانب التأكد من المعطيات الواردة في المحتوى الذي أثار فضولنا، فهو يضيف لنا الكثير معرفيا، ويسمح بتطوير تصورنا بخصوص تلك القضية.
كما أن هذا يساعدنا على تفادي إحراج التفاعل عن جهل… وهو ما يحدث في حالات كثيرة.
النقطة المرضية الثانية التي ينبغي أن تثير فضولنا، هي تلك القدرة العجيبة التي يملكها البعض لنبذ ورفض كل نقد. كمثل قصة الحكيم الذي يشير للقمر، وبدل أن ننتبه للقمر، نقطع أصبع الحكيم.
في قضية آسية بيبي مثلا، وفي قضايا أخرى مشابهة: هل الموجع فعلا، والذي يجب أن يستفزنا إيجابيا، هو تفاصيل القضية نفسها وما تترجمه من تطرف وعنف وإقصاء؛ أم أن يتطرق لها كاتب أو صحافي أو محلل؟ هل الخلل في أولئك الذين مارسوا عليها مختلف أشكال العنف، أم في من يفضح ذلك العنف؟
حين يشير فاعل ما لأشكال الخلل فينا، هل يجدر بنا أن ننتبه لأشكال الخلل والإعوجاج تلك لنصححها؛ أم أن نخون ذلك الفاعل ونتهمه بأنه يشوه صورتنا؟
علينا فقط أن نعي أننا إذا حطمنا المرآة التي تعكس بعض تشوهات وجهنا، فتلك التشوهات لا تختفي؛ بل تبقى في محلها وقد تتعاظم. الذي يحدث فقط أننا نتوقف عن مشاهدتها، ونهرب بالتالي من احتمال تصحيحها.
هذا السلوك أصبح، للأسف، شائعا. في دول بؤسنا العربي، يكفي أن يتطرق أحد من الكتاب والباحثين لموضوع يزعج التوجه العام، في السياسة أو الدين أو الفكر حتى تتوجه له سهام التخوين والتكفير والدعوة بالشتات وتضييق القبور عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشكل قد يدعو للشفقة. فهل يعتقد هؤلاء أنهم بذلك يدافعون عن الدين والتدين؟ ألا يخطر ببالهم أنهم، بعنفهم (وخصوصا عنف الأسماء المستعارة) يؤكدون تهم التطرف والعنف اللصيقة بدين يشوهونه أكثر مما يدافعون عنه؟ ألا يدركون أنهم حين يعتبرون أن الله وأن الرسول وأن الإسلام يحتاجون لدفاعهم (ولدفاعهم العنيف فوق ذلك)، فهم في الحقيقة يوجهون أكبر إهانة لله وللرسول وللإسلام؟
فمثلا، إذا تحدث باحث عن عمليات القتل التي عرفها تاريخ الإسلام (مقتل الخلفاء، لكن أيضا مقتل عدد من القادة السياسيين الذين في مرحلة ما بعد الخلفاء) وعن حرق الكعبة وعن غيرها من أشكال العنف التي تؤرخ لها أمهات الكتب نفسها، فهل: 1؛ نشتمه لأنه يعري لنا حقائق تاريخية تزعج استيهاماتنا عن التاريخ المفترض للدولة الفاضلة؟ 2؛ نتهمه أنه زور تلك الحقائق، رغم ورودها في المراجع الرسمية للتاريخ الإسلامي؟ 3؛ نتأمل تاريخنا لنفهمه معرفيا ولنحاول، بناء عليه، بناء مستقبل أفضل؟
إذا قدم باحث بعض النماذج لأحاديث في البخاري أو مسلم تتنافى مع العقل والمنطق أو تهين فئات مجتمعية ما، فهل نسبّه ونشتمه (علما أنه لم يخترع تلك الأحاديث) أم نفكر بتعقل لا يمس إيماننا بعمق الدين؟
قد تتكرر الأمثلة إلى ما لا نهاية… والدرس واحد: حين يتفاعل باحث أو كاتب أو صحافي أو فاعل جمعوي مع قضية معينة من قضايا الدين والتاريخ والهوية، ويقدم لنا معطيات لا نعرفها، لكنها تزعجنا؛ فالسلوك الناضج يقتضي منا أولا التأكد من معطيات القضية لمناقشته بالبرهان والعقل ـ لأنه قد يخطئ بالفعل. وإذا ما تأكدت أمامنا تلك المعطيات وأزعجتنا، فالذنب ليس ذنب ذلك الشخص. عنفنا اتجاهه لا يغير حقيقة من تلك المعطيات. لكنه، بالمقابل، يترجم تخلفنا وجهلنا ولا إنسانيتنا.
الحرة