السلايدر الرئيسيشرق أوسط
حقائقُ عن أزمنة الانتهاكات السوريّة في لبنان… ودلائلُ على بُطلان مشروعيّة الوصاية البائدة!
جمال دملج
– بيروت – من جمال دملج – استكمالًا لما كنّا قد تطرَّقنا إليه البارحة بخصوص السجال الذي تسبَّبت به مطالبة رئيس “التيّار الوطنيّ الحرّ” الوزير جبران باسيل بحفر لوحةٍ على صخور “نهر الكلب” ترمز إلى تاريخ انسحاب الجيش السوريّ من الأراضي اللبنانيّة يوم السادس والعشرين من شهر نيسان (أبريل) عام 2005 أسوةً باللوحة المماثلة التي ترمز إلى تاريخ جلاء الجيوش الأجنبيّة عن البلد يوم الحادي والثلاثين من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) عام 1946 والمحفورة على الصخور نفسها، فإنّ الخوض في غمار تجربة نبش الذاكرة لاستعادة وقائع بدايات مرحلة “وصاية الشام” على بلاد الأرز لا يمكن أن يستوفي حقَّه كاملًا من دون الرجوع إلى الخطأ الفادح الذي ارتكبَته جامعة الدول العربيّة في خريف عام 1976 عندما أسنَدت “مهمّة إحلال السلام في لبنان” إلى قوّةٍ عسكريّةٍ تشكَّلت على عجلٍ من وحداتٍ سعوديّةٍ ويمنيّةٍ وسودانيّةٍ وليبيّةٍ، بالإضافة إلى القوّات السوريّة التي كانت قد اجتاحت في ربيع العام نفسه معظم المناطق الجبليّة الواقعة ما بين الحدود وما بين مشارف العاصمة بيروت، مستخدِمةً شتّى أنواع الدبّابات والمدافع والصواريخ، ومنحازةً لصالح المقاتلين في أحزاب “الجبهة اللبنانيّة” ضدَّ خصومهم من المقاتلين التابعين لتحالف أحزاب “الحركة الوطنيّة” وفصائل منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وملطِّخةً أيدي جنودها بدماء مئات اللبنانيّين الأبرياء أثناء معارك صوفر وبحمدون وعاليه الشرسة، الأمر الذي كان كافيًا منذ البداية لكي ينزع عنها صفة “الشريك النزيه” في أيِّ جهدٍ لإحلال السلام في بلدٍ هي التي كانت قد أحرقَته بلهيب حربه الأهليّة في الأصل، تمامًا مثلما كان كافيًا منذ البداية أيضًا لكي ينزع عن جامعة الدول العربيّة صفة “الطرف الفاعِل” في مجال تحمُّل مسؤوليّاته بموضوعيّةٍ حيال تنفيذ القرارات المتّخَذة بشأن لبنان، ولا سيّما أنّ أسابيعَ قليلةً فقط لم تكد تمرُّ على تشكيل “قوّة السلام” حتّى انسحبَت الوحدات السعوديّة واليمنيّة والسودانيّة والليبيّة منها، لتبدأ إثر ذلك مرحلة الاستفراد السوريّ بالساحة اللبنانيّة على مشارقها ومغاربها تحت مسمّى: “قوّات الردع العربيّة”.
التشكيك الليبيّ
وعلى رغم أنّ رائحة النوايا المبيَّتة في دماغ الرئيس السوريّ (الراحل) حافظ الأسد حيال لبنان سرعان ما فاحت لتُزكم الأنوف على نطاقٍ واسعٍ في أماكنَ مختلِفةٍ من العالم، فإنّ أحدًا لم يتوقَّع وقتذاك أن يبلُغ شططُ تلك النوايا وفجاجتُها حدَّ استخدام أساليب الترهيب الدمويّة من أجل ترسيخ دعائم الاستفراد المذكور، على غرار ما حصَل لدى تنفيذ جريمة اغتيال الزعيم الوطنيّ الدرزيّ كمال جنبلاط قرب مدينة بعقلين الشوفيّة يوم السادس عشر من شهر آذار (مارس) عام 1977، وكذلك على غرار ما حصَل قبل ذلك التاريخ وبعده من عمليّاتِ تفجيرٍ لمكاتب الصحف المعارِضة لمبدأ التدخُّل العسكريّ السوريّ من أساسه، إضافةً إلى اختطاف واغتيال المشرفين عليها والعاملين فيها، ومن بينهم نقيب الصحافيّين رياض طه ورئيس تحرير مجلّة “الحوادث” سليم اللوزي، علمًا أنّ الليبيّين وحدهم كانوا قد شكَّكوا منذ الأيّام الأولى في “نظافة” الأجندة السوريّة في لبنان، محذِّرين من أنّ شططَ وفجاجةَ مشاريعهم ونواياهم ستُفضي حتمًا إلى اندلاعِ حروبٍ جديدةٍ وليس إلى إحلال السلام، الأمر الذي قُدِّر لي أن أكون شاهدَ عُيانٍ عليه يوم الرابع والعشرين من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 1976، وذلك عندما توجَّهتُ من مقرِّ إقامتي في فندق “قصر ليبيا” للقاء وزير الخارجيّة الليبيّ أبو زيد عمر دوردة في المكتب المؤقَّت الذي اتّخذه لنفسه في قاعة “ميدان التحرير” في طرابلس الغرب أثناء التحضيرات للمؤتمر العامّ الذي سيُقدَّر للعقيد (الراحل) معمّر القذّافي أن يُعلِن خلاله لاحقًا عن ولادة “سلطة الشعب” في بلاده، أملًا في الحصول على وساطته لحجزِ مقعدٍ لي على متن الرحلة الجوّيّة الأولى التي كان من المقرَّر أن تتّجه بعد يومين من بنغازي إلى مطار بيروت الدوليّ إثر افتتاحه مجدَّدًا أمام حركة الطيران لدى انتهاء “حرب السنتين”، فإذا بالوزير دوردة يسألني راسِمًا على وجهه ابتسامته المعهودة: “لماذا قرَّرت العودة على هذا النحو من السرعة”؟ فأجبته بعفويّةٍ قائلًا: “لكي أشهد على عودة السلام إلى وطني”… قاطعني بالقول: “لا تتفاءل كثيرًا، لأنّ السوريّين الذين دخلَت قوّاتهم إلى قلب بيروت الأسبوع الماضي لن يسمحوا بذلك”… سألتُه: “ولكن ماذا عن الالتزام العربيّ الذي يظهر من خلال مشاركة الوحدات السعوديّة والليبيّة والسودانيّة واليمنيّة في إطار قوّة السلام العربيّة”؟! فأجابني بحزمٍ مهذَّبٍ قائلًا: “ليست لديّ تفاصيل السيناريو بشكلٍ نهائيٍّ بعد، ولكنّ السوريّين سيسعون إلى الاستفراد بالساحة اللبنانيّة.. وأعتقد أنّك ستشهد على عودة الحرب بأدواتٍ وأساليبَ جديدةٍ هذه المرّة، وليس على عودة السلام”… ثمّ تناولتُ منه تذكرة السفر التي كانت قد أصبحت في تلك الأثناء جاهزةً، فودَّعته ميمِّمًا صوب بيروت، لأكتشف هناك بعد مرورِ أسابيعَ قليلةٍ فقط أنّه كان ولا يزال على حقّ.
فاتحة الاغتيالات
وإذا كان الغرض ممّا تقدَّم ذكره أعلاه يتمثَّل في وجوب التأكيد على أنّ ما بُنيَ على باطِلٍ سيبقى باطِلًا في شتّى الأحوال والظروف مهما طال الزمان، ولا سيّما بعدما أثبتَت تجارب السنوات الطويلة الماضية أنّ القيادة السوريّة، سواءٌ في عهد الأسد الأب أم في عهد الأسد الابن، ما زالت تتستَّر لغاية يومنا الراهن خلف حجَّة الادّعاء بأنّ وجود قوّاتها العسكريّة في لبنان تمَّ بموجبِ تفويضٍ رسميٍّ صدَر عن جامعة الدول العربيّة خلال مؤتمريْ القاهرة والرياض في شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 1976، من دون الأخذ في الاعتبار حيثيّات ما فعلته هذه القوّات على مدى الأشهر الستّة التي سبقت ذلك التفويض أو مطالبة السلطات اللبنانيّة برحيلها، مرّةً قبيْل انتهاء عهد الرئيس (الراحل) الياس سركيس عام 1978، ومرّةً لدى تسلُّم قائد الجيش (السابق) العماد ميشال عون مهمّة إدارة البلاد على رأس حكومةٍ عسكريّةٍ تشكَّلت بموجب الدستور إثر انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل بعدما حالت الظروف الأمنيّة دون انعقاد جلسةٍ برلمانيّةٍ لانتخاب رئيسٍ جديدٍ عام 1988، فإنّ الخوض في غمار تجربة نبش الذاكرة لا بدّ من أن يستوجب في الموازاة استحضار تفاصيل جريمة اغتيال الزعيم كمال جنبلاط على وجه الخصوص نظرًا لما تحمله في طيّاتها من دلالاتٍ على بجاحةِ الباطِل السوريّ، الأمر الذي يتجلّى بوضوحٍ عندما نعلَم أنّ الراحل كان قد أعلن يوم الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني (يناير) عام 1977، أيْ قبل اغتياله بأقلّ من شهرين، أنّه يعتزم تقديم استقالته من البرلمان لأنّه “لا يسعه العمل بعد الآن في ظلّ أوضاع المجلس النيابيّ الحاليّ”، موضحًا أنّه يقوم بـ “ترتيباتٍ معيَّنةٍ” داخل الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ تمهيدًا للاستقالة منه أيضًا بغية الانصراف للقراءة والتأليف والكتابة، وهو الإعلان الذي حالت جريمة الاغتيال اللئيمة دون وضعه حيِّز التنفيذ، ليُقدَّر للفقيد – المعلِّم أن يُصبح يومذاك أوّل ضحايا الاغتيالات السياسيّة في ظلّ “عودة السلام” إلى لبنان جرّاء سقوطه داخل سيّارته الـ “مرسيدس” السوداء مع مرافقيْه فوزي شديد وحافظ الغصيني بعياراتٍ ناريّةٍ غادرةٍ سرعان ما حامت الشبهات على الفور حول تورُّط السوريّين بشكلٍ مباشِرٍ في إطلاقها، علمًا أنّ القطع بين الشكّ واليقين بشأن هويّة المجرمين استغرَق ما يزيد عن تسعةٍ وعشرينَ عامًا من الزمان، إلى أن أعلَن العميد المتقاعد في قوى الأمن الداخليّ اللبنانيّ الذي حقَّق في الجريمة عصام أبو زكي أنّ أحد الجناة كان ضابطًا في “قوّات الردع العربيّة”، وعُيِّن في ما بعد مديرًا للاستخبارات الجوّيّة السوريّة، واسمه ابراهيم الحويجي… وحسبي أن أجدِّد التأكيد هنا على أنّ ما بُنيَ على باطِلٍ سيبقى باطِلًا في شتّى الأحوال والظروف مهما طال الزمان… وللحديث عن المزيد من إرهاصات الوصاية السوريّة على لبنان تتمّة.