كيرلس عبد الملاك
عرفت أن الكثيرين ممن هاجروا من مصر إلى الدول الغربية الأجنبية وجدوا صعوبة في التأقلم مع الأجواء هناك إما لأسباب تخص التقاليد واللغة أو لأسباب تتعلق بطبيعة الحياة، فطبيعة الحياة الجادة المنضبطة في هذه الدول الأجنبية تحرم الكثيرين من المصريين الذين اعتادوا على حياة غير منضبطة في وطنهم من الراحة النفسية والنجاح في التكيف مع المجتمع الغريب الذي انتقلوا إليه حديثا.
ومن القصص الطريفة التي استمعت إليها في هذا الإطار، قصص تتعلق بقيادة السيارات في الدول الغربية من قبل مصريين في مستهل حياتهم المهجرية، فقد احتوت هذه القصص على الكثير من الإخفاق والخروج عن قانون المرور الساري في هذه الدول ما أفضى إلى محاولة تعلم قيادة السيارة من جديد من قبل المخفقين، كأنهم لم يقودوا سيارة من قبل طوال حياتهم على الرغم من الخبرة طويلة الأجل في ذلك الشأن التي حملوها معهم من مصر إلى وطنهم الجديد.
الذين لم يستطيعوا التكيف مع الضوابط والقوانين الغربية من المهاجرين المصريين للدول الأجنبية تعرضوا لصدمة نفسية ومنهم من عاد إلى مصر متشوقا للعيش في بلاده بما تحمله من تقصير في تنفيذ القانون، وعدم وجود انضباط مجتمعي تجاه القواعد السليمة المؤدية إلى التقدم والرقي.
الراحة النفسية ليست دليلا على أن الإنسان يسير في الطريق الصحيح، فهناك راحة نفسية ناتجة عن تلوث نفسي وفكري، كما هو واضح في مسألة المهاجرين المصريين آنفة الذكر، لذلك فأنت أمام اختيارين لا ثالث لهما، إما أن تتكيف مع الفساد حتى يتغلغل داخلك ويكون جزءا من كيانك ويشكل حياتك ومستقبلك، أو أن تقاوم ذلك الفساد مطهرا قلبك وفكرك من الرواسب العالقة بهما إذا وجدت، لكي تصل إلى الصورة السوية للإنسان الذي أراد له الله أن يوجد على الأرض ويحيا ويتحرك بشكل بناء فيها.
حكومات الدول أيضا يمكنها أن تختار بين التكيف مع الفساد أو مقاومته، وأول خطوة في مقاومة الفساد هي الاعتراف بوجوده، ثم تأتي الخطوة الثانية وهي وجود الإرادة الحقيقية في التطهير والتنقية ليس على هوى السلطة إنما بحسب القانون العادل الذي يجد فيه أي إنسان حقه ووضعه البشري السليم، وهذا يحتاج إلى تعظيم التخصص والاحتكام إلى الضوابط المتعارف عليها دوليا وتاريخيا، فالأمر ليس صعبا إذا تخلى صاحب الأمر، المسؤول، عن الالتفاف حول الحقيقة وتوقف عن إيجاد ثغرات لخدمة أغراضه وتحقيق مصالحه الشخصية.
ضمن أسباب ما يعاني منه أي مجتمع فاشل الالتفاف حول الحقيقة ومحاولة الهروب منها ومحاولات إيجاد أدوات بعيدة عنها لحل إشكاليات وأزمات المجتمع، على الرغم من سهولة الوصول لسبب المعاناة، وإذا عُرف السبب سوف يبطل العجب، وتتضح الحلول بشكل جلي لا يحتاج إلى تعقيد.
إذا وضع الإنسان كل شئ في موضعه الصحيح المناسب سوف تختفي أزماته، فمن غير القبول أن يمزج الإنسان بين هويته الدينية وهويته الوطنية إلى الحد الذي يعتبر فيه المؤمنين بدينه وحدهم مواطنون وغيرهم لا يستحقون لقب المواطنة مما يدفعه إلى الكراهية والطائفية والعنف، هذه الصفات التي تؤدي بدورها إلى تخريب حياته وحياة شركاءه في الوطن، ومن غير المألوف بشريا أن يمزج الإنسان بين العلم والدين حتى يختفي لديه الحد الفاصل بين منابر العلم ومنابر الإيمان، مما يجعله مشتتا، تائها، مريضا بالهوس الديني والتلوث العلمي.
كذلك الدول أيضا، تحتاج إلى وضع الشؤون والتخصصات في مواضعها السليمة حتى تذهب إلى النجاح، فمن الصحي أن تلتزم الأفكار الدينية بالوجود في الحياة الشخصية ودور العبادة فقط، وأن تلتزم الأعمال العسكرية بالنواحي العسكرية فقط، وأن تحتفظ السياسة بالمسارات السياسية فقط، وأن تختص الأعمال الأمنية بأمن البلاد فقط، وأن يتعلق العمل القانوني بالنواحي القانونية فقط، وهكذا.
إذا تم خلط الديني بالسياسي بالقانوني بالعسكري بالأمني بالفني بغيرها من الاختصاصات والشؤون بالتأكيد ستكون النتيجة سيئة لأنها أوضاع غير سليمة لشؤون مختلفة ومتباينة في طبيعتها، لذلك من المباديء التي بنيت عليها الدول المتقدمة مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لضمان النزاهة وبقاء القيم الإدارية في مكانتها الراقية، أيضا مبدأ الفصل بين الاختصاصات الذي يمنح كل اختصاص وضعه السليم ليستطيع أن يثمر فيه بشكل سليم، أما الدول المتخلفة فمازالت تتمسك بمبدأ عشوائية التداخل بين السلطات والتخصصات طمعا في استتباب المناهج القديمة في الإدارة والحكم التي تحافظ على الفساد والتأزم كما هو بل وتذهب به إلى التمادي والمغالاة.
لا أمل للإنسان في حياة أفضل إلا عندما يواجه الحقيقة ويضع يده على مواطن الفساد ويمتلك الإرادة ثم يتوجه للمقاومة بعزم وإصرار على التطهير والتغيير دون خوف من العراقيل، ودون يأس من المصاعب.