حازم الأمين
لعل أكثر ما أصاب القضية الفلسطينية من عسف وظلم هو تولي سفهاء مهمة حملها على أكتافهم غير المحصنة من الجهل والاستتباع والارتهان. فحولوا قضية عادلة ومحقة إلى منصة لتفريغ أحقاد ولتشريع استبداد ولتعميم جهل. هؤلاء فعلا أعداء القضية الفلسطينية، وهم يسبقون بعداوتهم لها إسرائيل نفسها، ذاك أنهم يقفون وراء جلاد أشد فتكا بفلسطين، وأقل رغبة من إسرائيل في استبدال الظلم بالعدل.
إنهم “مقاومو التطبيع”، ممن منحهم بشار الأسد وغيره من قادة المحور الحق في أن يختاروا لنا سبل عيشنا وخياراتنا. إنهم جلادو فلسطين وخونة قضيتها العادلة. لقد تولى هؤلاء مهمة استرزاقية لم يسبق أن شهدتها قضية عادلة. ونحن، إذ نجحوا في استدراجنا إلى وعي ضدي، تحولنا إلى ساعين لصد هجماتهم على عقولنا، وهذا ما استنزف طاقات كان من المفترض توظيفها للدفاع عن حقنا بفلسطين على نحو مختلف ومثمر.
إنهم ممثلو أنظمة فشلت في حروبها مع إسرائيل؛ ونحن لنا الحق، كل الحق، بالبحث عن صيغة أخرى للصراع. لقد خسرنا كل فلسطين ونصف الأردن وأهم جبال سورية وصحراء سيناء، وكان هؤلاء من استدرجنا إلى هذه الخسارة. وها هم اليوم أحفاد صدام حسين وجمال عبد الناصر وحافظ الأسد يتولون المهمة نفسها. يريدوننا أن نخسر ما تبقى لنا من أرضنا ومن عقولنا، لتستتب لهم السلطة وليتمكنوا من الانقضاض على مزيد من الناس.
السؤال عن المقاطعة يجب أن يبدأ من حجم الخسارة التي حلت بنا جراء عيشنا في ظل “أنظمة المقاطعة”، ويجب أن يبدأ بالبحث عن هوية ذلك الشرطي القادم إلى المقاطعة من الارتهان إلى حاكم قاتل. فلسطين تسألهم عن صدام حسين وعن بشار الأسد، وقبل أن يبادروا إلى سؤالنا عن محمد بن سلمان علينا أن نجيبهم بأن فلسطين سألتنا عن القدس حين بارك الأخير ضمها إلى إسرائيل، ووجدنا أنفسنا أمام إجابة لا بد منها. هذا الرجل هو جزء من منظومة الحكام الذين لن نجد أنفسنا إلا في مواجهتهم.
العيش في ظل “ثقافة المقاطعة” معطل للخيال، ذاك أنه يملي علينا مزيدا من الهزائم. فـ”المقاطعون”، لم يطرحوا على أنفسهم يوما مهمة النقاش في جوهر الهزيمة، وفي دلالاتها، ولم يصل بهم التفكير يوما إلى أن مصدر الهزيمة هو تلك الأنظمة التي ينطقون باسمها، وأن شكل “المقاطعة” الذي يحاولون فرضه علينا هو امتداد لوعي استبدادي قتل ما يزيد عن مليون سوري وعراقي، وسجن مئات الآلاف من الفلسطينيين في مخيماتهم في لبنان وسورية.
فلسطين قضية عادلة ولا يليق بنا أن نتيح لأعداء الحرية هؤلاء أن يتحدثوا باسمها، ولا يمكن لقضية أن تستقيم في ميزان العدل إذا لم تكن الحرية جوهرها. وكم يبدو مسيئا لفلسطين أن نصفق لصدام حسين حين قصف إسرائيل، ولم نفكر أن صواريخه كانت استهدفت قبلها الأكراد والشيعة في العراق. ثم إن هؤلاء الذين يحصون علينا أنفاسنا بعد أن منحوا بشار الأسد عفوا من دماء نصف مليون سوري، هم من يسيئون لفلسطين، ولسنا نحن الساعين إلى التقاط أنفاسنا جراء الهزائم المتلاحقة منذ أكثر من نصف قرن.
من كتب “مانيفستو المقاطعة”؟ ومن قرر عنا ما علينا فعله وما ليس علينا فعله؟ البعث هو من فعل ذلك. الوعي البعثي قبل أي وعي آخر. وهو وعي انتقائي وانتقامي سبق له أن أعفى رامي مخلوف من المحاسبة حين عرض الأخير أن يساوم على “أمن العدو”. وهذا الوعي هو من حول فلسطين إلى لعبة بيد المستبد، وهو بذلك يشبه بنيامين نتانياهو الذي ينعم بسلطة هؤلاء الذين لا يريدون لمجتمعاتهم إلا مزيدا من الجهل والخنوع.
فلسطين في مكان آخر تماما. العدالة في مكان آخر تماما، وهي بعيدة عن وعي هؤلاء قدر ابتعاد فلسطين عن نتانياهو وأكثر. هؤلاء احتفلوا بضم القدس. احتفلوا فعلا لا قولا. شعروا أن مقولتهم انتصرت، فعلى رأس الدولة في إسرائيل اليوم رجل يشبه رجالهم. يشبه صدام حسين وجمال عبد الناصر، ويقصف دمشق من دون أن يُعلن أنه قصفها، فيحفظ لهم ماء وجههم، ويحفظون له الحق في ضم القدس. وها هو اليوم قد توقف عن قصفهم بعد أن ضمنوا له الابتعاد عن حدوده. كل هذا يبقى خارج وعي “مقاومي التطبيع”، فيما هم يراقبون ما إذا كان كتابا إسرائيليا قد تُرجم لنقرأه، فهذا برأيهم أكثر خطرا علينا من نحو 500 غارة نفذتها إسرائيل على سوريا، ولم يُعلن عنها في “مانيفستو المقاطعة!”.
الحرة