السلايدر الرئيسيتحقيقات
قراءةٌ تفصيليّةٌ للأزمة الروسيّة – الأوكرانيّة.. وسردٌ بالتواريخ لتسلسل الأحداث (1 – 2)
جمال دملج
– بيروت – من جمال دملج – ربّما ليس من باب المبالغة القول إنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين لا يحتاج عادةً إلى الكثير من الجهد والوقت لكي يعزِّز خطوط بلاده الدفاعيّة في مواجهة أيِّ تحرُّكٍ مشبوهٍ من شأنه تعريضُ أمنها القوميّ للخطر، على شاكلة ما يحدُث في هذه الأيّام عند تخومها الحدوديّة مع أوكرانيا، ولا سيّما أنّ هذا الرجل الذي قُدِّر له الولوج إلى عالم السياسة من بوّابة مدرسة الـ “كي جي بي” الاستخباراتيّة السوفييتيّة العريقة، بعدما عُرِف عنه أنّه أُوتيَ بعينيْ صقرٍ وبمَلَكةٍ أمنيّةٍ على درجةٍ عاليةٍ من الاستشعار، لم يكن من الصعب عليه أن يدرك منذ البداية الأبعاد الحقيقيّة للتطوّرات الدراماتيكيّة التي شهدتها الساحة الأوكرانيّة، سواءٌ لدى اندلاع حركة الاحتجاجات الشعبيّة في “ميدان الاستقلال” وسط العاصمة كييف في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2013 أم في أعقاب تمكُّن قوى المعارضة المسلَّحة من الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش في شهر شباط (فبراير) عام 2014، وذلك انطلاقًا من إيمانه الراسخ بأنّ الأيادي الخارجيّة التي عملَت على تأجيج تلك الحركة وراحت تُمعِن في صبِّ الزيت على نارها طيلةَ أربعةِ أشهرٍ من الزمان، لم تكن تستهدف في الأساس سوى النفخ في اتّجاه إيصال الحريق إلى الخاصرة الروسيّة، ظنًّا منها بأنّ ممارسة بعض أنواع الضغوط على قصر الكرملين في موسكو، يمكن أن تؤدّي إلى إرغام قيادته على القبول بإعادة خلط الأوراق فوق مسرح السياسة الدوليّة، بما يضمَن توفير الفرص اللازمة للعمل على إعادة قلب موازين القوى لصالح الولايات المتّحدة وحلفائها الأوروبيّين في مواجهة واقع الحال الذي فرضَته كافّة تجلّيات التفوُّق الروسيّ في أماكنَ مختلِفةٍ من العالم.
الانتهازيّة الغربيّة
ولعلّ إجراءَ مجرَّدِ مراجعةٍ سريعةٍ لتسلسل الأحداث منذ بدء اعتصام قوى المعارضة في “ميدان الاستقلال” في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2013 للاحتجاج على قرار الرئيس يانوكوفيتش بشأن تأجيل التوقيع على اتّفاقيّة الشراكة الانتسابيّة مع الاتّحاد الأوروبيّ، ستُظهِر بوضوحٍ أنّ هذا الاعتصام لم يكن ليُقدَّر له أن يخرُج عن إطاره السلميّ لولا مسارعة الدوائر الأمريكيّة والأوروبيّة إلى تقديم كافّة أشكال الدعم المادّيّ والمعنويّ للمحتجّين، الأمر الذي ما لبث أن تجلّى عندما انتهز عددٌ من المسؤولين الغربيّين، ومن بينهم مساعدة وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة للشؤون الأوروبيّة والآسيويّة فيكتوريا نولاند ووزير الخارجيّة الألمانيّ غيدو فسترفيلي، فرصة انعقاد القمّة الوزاريّة لمنظّمة الأمن والتعاون الأوروبيّ في كييف يوم الخامس من شهر كانون الأوّل (ديسمبر)، فنزلوا إلى الميدان للإعراب عن تضامنهم مع المعتصِمين، فاتحين بذلك فصلًا جديدًا من فصول الأزمة، ولا سيّما أنّ شهر كانون الثاني (يناير) عام 2014 لم يكد يطلّ حتّى بدأ المحتجّون بالاستيلاء على المباني الحكوميّة وسط العاصمة، قبل أن يضطرّ الرئيس يانوكوفيتش في نهاية الشهر نفسه إلى إبرام اتّفاقِ تهدئةٍ مع زعماء المعارضة، يقضي بأن تقوم السلطات الأوكرانيّة بالإفراج عن المعتقلين على خلفيّة الاضطرابات الأخيرة مقابل انسحاب المحتجّين من تلك المباني، علمًا أنّ تنامي دور الحركات اليمينيّة القوميّة المتطرِّفة، وعلى رأسها حركة “القطاع الأيمن”، سرعان ما أدّى إلى إفشال هذا الاتّفاق بعدما راح المتطرِّفون يمعِنون في استهداف قوّات الأمن بسلسلةِ هجماتٍ مسلَّحةٍ، رافضين الاستجابة لأوامر قادة المعارضة، الأمر الذي دلّ في المحصِّلة النهائيّة إلى أنّ الأيادي الخارجيّة التي كانت تحرِّكهم أرادت الاستمرار في صبّ الزيت على نار الحريق الأوكرانيّ الملتهب.
بوادر الانقلاب
وفي هذا السياق، لا بدَّ من الإشارة بإسهابٍ إلى وقائع ما جرى يوم التاسع عشر من شهر شباط (فبراير) على وجه الخصوص، ولا سيّما أنّ دوائر أجهزة الأمن ومكافحة الإرهاب لم تكد تعلِن عن اعتزامها البدء بعمليّةٍ أمنيّةٍ واسعةِ النطاق للحدّ من التجاوزات التي أودَت بحياة الناس، حتّى راحت الدلائل تُثبِت تباعًا وجودَ مئاتِ العناصر المسلَّحة من المرتزقة الأجانب الذين يحملون جنسيّاتٍ أميركيّةً وألمانيّةً وبولنديّةً وتركيّةً، وذلك بالتزامُن مع إعلان قادة المعارضة في وقتٍ متأخِّرٍ من مساء اليوم نفسه عن توصُّلهم إلى اتّفاقِ تهدئةٍ جديدٍ مع الرئيس يانوكوفيتش، أملًا في إقناعه لاحقًا بالدعوة إلى إجراءِ انتخاباتٍ رئاسيّةٍ مبكِّرةٍ، قبل أن تبادِر الحركات اليمينيّة مجدَّدًا إلى الإعراب عن رفضها الالتزام بالاتّفاق جملةً وتفصيلًا، معطيةً بذلك إشارةً واضحةً حول إصرارها على الدفع في اتّجاه تصعيد الموقف، فما كان من أنصارها إلّا أن تلقّفوا كلمة السرّ، وقاموا عند الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي بشنِّ هجومٍ بالأسلحة الناريّة على قوّات الأمن التي كانت تتمركز عند مداخل “ميدان الاستقلال”، الأمر الذي فتح الطريق أمام بقيّة المحتجّين للتقدُّم نحو الحيّ الحكوميّ، حيث تعرّضوا لعمليّاتِ إطلاقِ نارٍ على أيدي قنّاصةٍ كانوا يتمركزون فوق أسطح المباني المحيطة بشارع “إينيستيتو تسكايا”، وهي العمليّات التي سرعان ما اتّضحت ماهية الهدف الحقيقيّ من ورائها في غضونِ أيّامٍ قليلةٍ فقط، وذلك بعدما تمّ الكشف عن تسجيلٍ مسرَّبٍ لمكالمةٍ هاتفيّةٍ تحدَّث خلالها وزير الخارجيّة الإستونيّ أورماس بايت مع المفوَّضة الأوروبيّة للسياسة الخارجيّة والأمن كاثرين آشتون عن قيام إحدى الجماعات الموالية للمعارضة الأوكرانيّة بتجنيدِ فرقةٍ خاصّةٍ من المسلَّحين للعمل على قتل المتظاهرين ورجال الأمن في “ميدان الاستقلال” على حدٍّ سواء، مشيرًا إلى توفُّر صورٍ وشهاداتٍ للأطبّاء تُثبت أنّ جميع ضحايا يوم العشرين من شهر شباط (فبراير) في كييف سقطوا بطلقاتٍ ناريّةٍ من نوعٍ واحدٍ، وعلى أيدي نفس المسلَّحين.
الشروط المجحِفة
هذه الوقائع وحدها، وإنْ كانت تبدو كافيةً للدلالة إلى تجلّيات النزعة الإجراميّة الواضِحة والفاضِحة التي استبدَّت بسلوكيّات غالبيّة مناصري قوى المعارضة في ذلك اليوم، ولكنّ الغرض من استحضارها هنا يتمثَّل في وجوب الإشارة إلى أنّها تبدو كافيةً أيضًا لكي تدحض المزاعم التي بنَت على أساسها الدول الغربيّة مواقفها الداعمة لتلك القوى، سواءٌ من حيث الادّعاء بأنّ قرار تأجيل التوقيع على اتّفاقيّة الشراكة الانتسابيّة مع الاتّحاد الأوروبيّ يشكِّل خروجًا عن النهج الأوكرانيّ الرامي للانضمام إلى دول الاتّحاد أم من حيث التلويح بأنّه يهدف إلى تكريس تبعيّة أوكرانيا لروسيا، ولا سيّما أنّ الرئيس يانوكوفيتش كان قد استفاض في شرح العوامل التي دفعته إلى اتّخاذ قرار التأجيل، معتمِدًا على تفنيد ما تضمَّنته بنود الاتّفاقيّة من شروطٍ مجحِفةٍ بحقِّ بلاده، ناهيك عن أنّ تلك البنود كانت قد أثارت حفيظة الرئيس بوتين بدوره أيضًا، الأمر الذي تجلّى لدى توجيه اتّهامه للغرب بممارسة الضغوط على أوكرانيا وابتزازها، مؤكِّدًا في ختامِ مباحثاتٍ أجراها في روما مع رئيس الوزراء الإيطاليّ إنريكو ليتا يوم السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2013، أيْ في بدايات الأزمة، على أنّ “فتح الحدود الأوكرانيّة مع الاتّحاد الأوروبيّ، في ظلّ التجارة الحرّة مع روسيا، يمكن أن يدمِّر قطاعاتٍ كاملةً للاقتصاد الروسيّ، مثل صناعة السيّارات وصناعة الطائرات والقطاع الزراعيّ”، ومشدِّدًا على أنّ بلاده “لا تستطيع دفع هذا الثمن لكي تنال إعجاب دول الاتّحاد”، بينما علَّق وزير خارجيّته سيرغي لافروف على تلك الممارسات باستياءٍ قائلًا: “إنّ الغرب أصبح يتعامل مع أوكرانيا بطريقةٍ هستيريّةٍ مثلما يتعامل أساتذة المدارس مع التلاميذ”.
الآتي الأعظم
وبالعودة إلى وقائع اليوم الأوكرانيّ الدامي الآنف الذكر، فقد كان لافتًا جدًّا أنّ تتزامَن كافّة التطوّرات الدمويّة يومذاك مع وصول وزراء خارجيّة كلٍّ من ألمانيا وفرنسا وبولندا إلى كييف، حيث التقوا بزعماء المعارضة، ومن ثمّ بالرئيس يانوكوفيتش، محاولين إقناعه مجدَّدًا بالموافقة على فكرةِ إجراءِ انتخاباتٍ رئاسيّةٍ مبكِّرةٍ، الأمر الذي ما لبث أن تبلوَر صباح يوم الحادي والعشرين من شهر شباط (فبراير) إثر الإعلان عن التوقيع بالأحرف الأولى على صيغةٍ جديدةٍ للتسوية بين النظام والمعارضة، بحضور الوزراء الأجانب ومفوَّض الرئيس الروسيّ لحقوق الإنسان فلاديمير لوكين، تقضي بأن يبادر يانوكوفيتش إلى الدعوة لإجراءِ الانتخابات المبكِّرة في غضونِ عشرةِ أشهرٍ، وإطلاقِ إصلاحٍ دستوريٍّ يرمي إلى نقل جزءٍ من صلاحيّات الرئيس إلى البرلمان والحكومة، قبل أن تعلِن حركة “القطاع الأيمن” عن رفضها لأيِّ تسويةٍ لا تأخُذ في الحسبان تنحّي الرئيس يانوكوفيتش عن السلطة، وهو الإعلان الذي سرعان ما أدّى إلى تكثيف الظهور المسلَّح في شوارع كييف واقتحام المباني الحكوميّة واحتلالها في سياق تحرُّكٍ مشبوهٍ حمَل كافّة سِمات المحاولات الانقلابيّة المسلَّحة، لتبدو العاصمة الأوكرانيّة يوم الثاني والعشرين من شهر شباط (فبراير) وكأنّها تخضع بأكملها لشريعة الغاب بعدما أحكَم الانقلابيّون سيطرتهم على شوارعها في ظلِّ غيابٍ تامٍّ لعناصر قوّات الشرطة والجيش، بينما اختفى الرئيس يانوكوفيتش عن الأنظار بشكلٍ مفاجىءٍ، ليظهَر لاحقًا على شاشات التلفزة من مسقط رأسه في مدينة دونيتسك الواقعة بالقرب من الحدود الروسيّة شرق أوكرانيا، إيذانًا بانتهاء ولايته قسرًا، وبفتحِ صفحةٍ جديدةٍ في ملفِّ أزمةٍ مستعصيةٍ لا تزال إرهاصاتها حاضرةً بقوّةٍ لغاية يومنا الراهن، سواءٌ بين الأوكرانيّين أنفسهم أم على خطّ التوتُّر العالي بين موسكو وكييف، تمامًا مثلما لا تزال تُطلِق نذائرها باضطرادٍ حول احتمالات الآتي الأعظم على مستوى الأمن الأوروبيّ برمّته مع انبثاقِ فجرِ كلِّ يومٍ جديدٍ.. وللحديث عن إرهاصات الأزمة الأوكرانيّة تتمّة.
(يتبع غدًا: الطريق إلى شبه جزيرة القرم..)