أقلام مختارة

المجاهدون في «واشنطن بوست»!

سلطان البازعي

سلطان البازعي

في اللغة الإنكليزية توجد كلمة Crusader (تنطق كروسيدر)، وهي تعني في العصر الحديث كما يشرحها قاموس كامبردج «الشخص الذي يبذل جهداً، وبإصرار، لتحقيق أو منع حدوث شيء مدفوعاً بقوة معتقده»، وفي القواميس العربية لا تجد لهذه الكلمة ترجمة سوى أنها «صليبي»، وذلك أن أصل الكلمة، كما يشرح قاموس كامبردج نفسه تطلق على الشخص المسيحي الذي شارك في واحدة من الحروب الدينية التي شنها مسيحيو أوروبا ضد المسلمين في فلسطين خلال القرون الميلادية الـ11 والـ13 والـ17 على التوالي، وهي التي نعرفها في تاريخنا بالحروب الصليبية. وعلى رغم أن هذه الحروب لها سمعة سيئة في التاريخ الأوروبي بسبب من الفظائع التي ارتكبها الغزاة على أرض فلسطين، وبسبب من الهزائم التي تكبدوها أيضاً على أيدي المقاومين المسلمين وحتى من مسيحيي الشرق العرب، فإن هذه الكلمة – تحديداً- عادت لتكتسب صفة إيجابية ودلالة على العزيمة والإصرار في السعي نحو الهدف.

ولا أظن أنه توجد في اللغة العربية كلمة يمكن أن تكون مقابلة لهذه الكلمة، وتصلح لأن تكون ترجمة لها سوى كلمة «مجاهد»، لأن الجهاد في الثقافة الإسلامية والعربية، وخاصة جهاد النفس، يعني بذل جهد خارق للعادة للانتصار لفكرة وعقيدة، وهي فكرة إيجابية على رغم ما لطخها من الأعمال الإرهابية التي ارتكبتها الجماعات الإسلاموية، والتي أساءت حتى للجهاد الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني.

ويعترف المؤرخون الغربيون بأن الحروب الصليبية حرّكتها دوافع وأطماع سياسية لبابا الفاتيكان وملوك أوروبا، وأن نتائجها كانت كارثية في النهاية، لأنها في الأساس حركت الجموع باستغلال انتهازي لعواطفهم الدينية، كما نعرف اليوم أن كثيراً من الصراعات والانقسامات التي حدثت للجسم الإسلامي، وصولاً إلى ظهور الحركات الإرهابية المتطرفة، والمطامع التوسعية التي تتخذ غطاء تصدير الثورة ونصرة المحرومين مرة، أو إعادة الخلافة الإسلامية مرة أخرى، كلها إنما ترتكز إلى ذات المحرك الانتهازي الذي لا ينشد خيراً للإنسان ولا عدالة ولا تنمية.

لا أريد التوسّع في هذا المبحث التاريخي الثقافي لوصف الهوة بين معسكرين، لكننا أمام حالة فريدة من ازدواج المعايير في تبني الأحكام، هي حالة من «الضياع في الترجمة» كما هو عنوان الفيلم الشهير للكوميدي العبقري الراحل روبن ويليامز.

كلمات عربية كثيرة دخلت قاموس الإعلام الغربي في السنوات الأخيرة، وأعطيت دلالات سلبية وتجريمية، ومنها بالطبع كلمتا «جهاد» و«مجاهد»، كما هو الحال في كلمة «إمام» التي أعطيت مدلول زعيم جماعة إسلامية، و«مدرسة» التي أصبحت مكاناً للدعوة إلى التطرف، وهذه الكلمات تستخدم كثيراً كلما جاء الحديث عن المملكة العربية السعودية بشكل خاص.

ومنذ ظهور قضية مقتل جمال خاشقجي على السطح، أسبغ معلقون غربيون على صحيفة «واشنطن بوست» وكتابها صفة «الكروسيدر»، على اعتبار أنهم تولوا مهمة رأس الحربة في معركة لتثبيت التهمة، وقاموا هم بمهمة القضاة والجلادين على المذنبين المحددين سلفاً، وكما في الحروب الصليبية فإن القيادة العقدية وزعت المهمات على الكتائب والألوية المساندة لها، ولأن الهدف أو الجائزة السياسية كبير ودفاعاته قوية وصلبة، فقد تم التنازل عن كل قواعد الاشتباك الأخلاقية المتبعة في الحروب، وهي في هذه الحالة القواعد المهنية في نقل الأخبار والتحقق منها وصياغتها بطريقة حيادية. الذين يهاجمون السعودية وولي عهدها ونظامها، في «الواشنطن بوست» وتوابعها، هم أنفسهم الذين وصفوا إرهابيي ميدان رابعة العدوية في القاهرة بالمقاتلين من أجل الحرية، وكانوا أسبغوا هذا الوصف على أسامة بن لادن حينما كان في السودان، وحينما أسقطت السعودية عنه جنسيتها وحذّرت منه.

وكأنما تحول مقر صحيفة «واشنطن بوست» في «كي ستريت» بالعاصمة الأميركية إلى «فاتيكان إعلامي» يصدر الفتاوى بالحرمان كما يصدر صكوك الغفران، وما استخدامي لوصف «الجهاد» على ما يقومون به إلا مجاز يشير إلى مفهومهم هم للجهاد والمجاهدين ويسقط هذا المفهوم عليهم.

ومن يتابع تغطية الصحيفة الأميركية لظهور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في قمة العشرين في بيونس أيريس، يتأكد له أن المهنية التي تقتضي البحث عن الحقيقة كانت آخر ما يفكر فيه هؤلاء «المجاهدون» الجدد، وقد تبدت هزالة الطرح التي تتساوى مع تهافت قناة «الجزيرة» القطرية، بل إنها كانت مثل الصدى لها.

تجاهلت الصحيفة أن ولي العهد السعودي حظي باستقبال رسمي في المطار من وزير خارجية البلد المضيف، وهو استقبال لم يحظ به كثير من الزعماء المشاركين في القمة، وركزت على تفسيرها الهزيل للموقع الذي وقف فيه الأمير محمد بن سلمان في الصورة التذكارية بناء على قواعد بروتوكولية متعارف عليها، وسعت الصحيفة للإيهام بأن الأمير كان في عزلة من قادة الدول المشاركة، وحاولت التقليل من شأن الذين سعوا للقائه، ومنهم زعماء الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وبريطانيا وكوريا الجنوبية والمكسيك وفرنسا.

من بقي أيها «المجاهدون الجدد»؟ صحيح.. نسينا الخليفة أردوغان.

أتمثل أخيراً بما قاله شاعر نجد محمد العوني، وآمل صادقاً أن يحسن «المجاهدون الجدد» ترجمته واستيعاب معانيه:

اضرب على الكايد ولا تَسمع كلام

العز بالقَلْطَات والرَّاي الصِّلِيْب

لو ان طِعِت الشوْر يا الحِرِ القَطَام

ما كان حِشْت الدار وَاشْقَيْت الحَرِيب

* كاتب سعودي.

 

الحياة اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق