*صقر بن محمد
الطفل في سنواته الأولى لا يميز بين ذاته ووالديه. فيراهم كجزء منه؛ كالوجه، واليد، والقدم. فهو لا يكذب؛ لأنه يعتقد أنهم يعرفون ما تنطوي عليه نفسه. بعد هذا الطور من وعي الذات. يكتشف الطفل – أن اخفاءه لبعض أفكاره ينجح، وأن والديه لا يمكن أن يعرفا. فيبدأ الطفل يوما بعد يوم يخوض تجربة إخفاء ما تنطوي عليه نفسه، وإظهار خلافها. فيبدأ بتخيل أزمنة غير الأزمنة، وأماكن غير الأماكن، وأنظمة غير الأنظمة، بقواعد جديدة.
يوما بعد يوم يأخذ عقل الطفل بتمدد كما يتمدد الكون، فيستكشف كل العوالم في مخيلته، فمرة يكون قرصانا يغزو السفن في عرض البحار، ومرة يكون محلقا على ظهر أوزة في جو السماء، ومرة يكون في حفل كبير وتصفيق حار من الاصدقاء والمعلمين بسبب فوزه بجائزة الطالب المثالي؛ وهذا الآخير حدث لأحدى الأمهات عندما أخبرها ابنها بهذا، فذهبت مستبشرة للمدرسة، وعندها فوجئت إلى أنه لم يكن إلا خيال طفلٍ مجنحٍ.
هل تخيلت كيف ستكون المسريحة بدون تجارب أولية؟ أو كيف سيكون أداء فريق كرة القدم في المبارة دون تدريب؟ الخيال هو التجارب الأولية لكل عمل. وعند الطفل فالأمر مختلف؛ فهو لا يفرق بين الحقيقة و الخيال. لأنه عندما يتخيل أنه أسرع طالب في الفصل فشعاع الخيال في عقله ساطع لا يمكنه من رؤية ما هو حقيقي وما هو خيال. ولذا يكثر الخيال المجنح عند الطفل، فهو يكلم ألعابه ويكلمونه، وربما صير الكرسي إلى برج مراقبة، والحذاء إلى طائرة نفاثة. ولأن الأحلام تتحقق؛ فمن كان يلعب بالحذاء الطائر صار طيارا، ومن كانت تلعب بعرائس الشموع صارت أما رؤوم.
السبب الثاني الذي يدعوا الأطفال إلى التخيل هو الملل فمن المعروف أن الأسرع في الملل هم الأطفال، وبسبب فورة الطاقة فيهم فيصعب توجيهها لشيء واحد باستعمال واحد. فيما يوفر الخيال لهم كل شيء يحتاجونه.
ولو راقبت الأطفال في كل اجتماع عائلي في إجازة نهاية الأسبوع ستجد أنهم بمجرد أن يجتمعوا يأخذوا بيد بعضهم بيد البعض ويقول:دعونا نلعب لعبة قائدي السيارات، أو الراعي والماشية، أو في العصر الحالي مع الإجهزة الإلكترونية نجدههم يقولون لنلعب لعبة call of duty ولعبة يتخيل فيها اللاعب أنه جندي مشاة و يقوم بتنفيذ المهام.
شاهدت طفلة من أقربائي علبة مشروب غازي -سفن آب- في الثلاجة؛ فتظاهرت بأنها لديها آلام في البطن؛ حتى يعطوها هذا المشروب. بكل تأكيد الطفلة لم تكن يكذب هنا بل هو الخيال المجنح، الخيال الذي يصنع الدنيا على ما يحب ويشتهي. وهذا الخيال علامة تميز في الطفل وليس كذب. فبعض الناس يقول: ولدي يكذب بكثرة. هو لم يعرف الصدق حتى يعرف الكذب، فالطفل في سنواته الأولى من الثالثة حتى الخامسة؛ لا يفرق بين المتضادات فمن الخطأ أن يخوف عندما”يكذب الطفل” بقولك: ربي يدخلك النار. فالنمو العقلي لطفل لم يصل بعد لأجل أن يفرق بين أنه هناك الله لديه الجنة ونقيضها النار. فترتبط النار بذهن الطفل؛ بأن الله هو الذي يدخل الناس النار. وأفضل من هذا وذاك هو أن تبحث عن سبب خيال الطفل “أو كذب الطفل” في المواقف التي يطلب منه أن يتعامل مع الواقع. وأهم سببين من وجهة نظري هما : 1- التنافس: فغريزة الإنسان تدفعه دائما إلى حب أن يكون مميزا عن الآخرين أو كما قال فرويد في أن كل الغرائز في الإنسان تعود إلى (الحصول على الجنس الآخر).
وحيال أن يكون مميزا فهو يختلق ذلك. فمثلا اسأل مجموعة اطفال عن من يقود سيارة أو حتى من لديه سيارة أو جوال فما أن يرفع طفل من الأطفال يده؛ إلا وتجد أن بقية الأطفال رفعوا أيديهم فكلهم لديهم “ايفونx” وكلهم يقودون السيارات وربما اسرعوا و فحطوا،، كل هذا بدافع الغريزة الموجودة فينا في أن نكون مميزين فنحصل على الجنس الآخر؛ على حد ما قال فرويد.
أيضا ثمة دافع للكذب أو الخيال وهو الهروب من المشكلات العائلية؛ فقد وجد كثير من الأطفال الذي يعيشون في محيط مضطرب بالمشكلات العائلية يتخيلون اباء مثاليين يقدمون لهم الهدايا، ويمدون يد العون لأمهاتهم.
في محكمة الأخلاق وأمام قاضي القيم النبيلة، يتسأل الطفل ما حقوقي كمتخيل أو كما أُسَمَى كاذب؟
في الحقيقة أن الطفل وخياله لهم حقوق على الوالدين والمعلمين ومن حولهم من الراشدين. فالخيال هو مصدر لإثراء الذكاء، وتخصيب الفن. وإزهار المستقبل أو كما يقول انشتاين : الخيال أهم من المعرفة.
أول الحقوق: هو توفير المثال الجيد. فحتى لا يأخذ الخيال مسلك الكذب، ويعتاد الطفل على الخداع والإحتيال؛ فيجب أن يكون الوالدان المثال القدوة. فالأب الذي يأتيه اتصال فيُخْبِرُ المتصل بأنه مشغول، وهو في الحقيقة لا يفعل شيئا، والابن يرى ذلك كله. ثم بعد هذا نتسأل؛ لماذا يكذب ابني؟
الحق الثاني من حقوق الطفل هو: أن لا نضطره للكذب، فوجود مسلتزماته الدراسية، أو المصروف الدراسي، وتعزيز الثقة بالنفس، سيضيق الفرصة على ظهور الكذب. الحق الثالث: أن نكتشف الدافع خلف كذب الطفل. نعم قد يكون الكذب عرض وليس مرض. ويكون هو الإشارة التي تأخذنا لما بعد. فعلينا كمربين أن ننقل خط تفكيرنا من ابني يكذب إلى لماذا يكذب. فعندما يكذب بشأن أخيه فيلفق القصص التي لا تنتهي؛ وذلك بأنه ضربه أو أخذ طعامه وهذا كله لم يحدث. عندها فقط نعرف أن خلف كذب الطفل؛ عدم العدل بينه وبين أخيه، أو شعور بالظلم تجاهه من قبل والديه.
أختم بخمس أمور تفعلها عندما ترى طفلك يتخيل”يكذب”:
1ـ حافظ على الهدوء. فإنفعال الأب، أو المعلم عندما يرى الطفل لن يزيد الأمر إلا سوءا.
2 ـ تذكر أنك تراه من زاوية الكذب، وهو يراه من الجانب الآخر وهو خياله .
3 ـ ساعد طفلك بالوعي بالخيال. مثلا : ما أجمل خيالك، لنقل القصة لخالتك!
4 ـ أكد على صدقية طفلك. أخبره بـ: أنه صادق، وأنك تثق به، وأن الجميع يحبه.
5 ـ وهو أهمها؛ فتش عن دافع الكذب وعالجه. الكذب دخان، والدافع نار. فقط اسكب الماء على النار.
*كاتب من السعودية