منصور الحاج
قبل عامين، كتبت مقالا بعنوان “ظاهرة الـ”ترامبفوبيا” وأسباب عدم قلقي من وصوله إلى السلطة في الولايات المتحدة، تناولت فيه مخاوف من دقوا ناقوس الخطر وقتها ورأوا أن ترامب سينصب نفسه في حال فوزه الحاكم الأوحد للبلاد وأن وصوله إلى السلطة سيكتب نهاية الديمقراطية الأميركية.
اليوم، وبعد عامين من وصوله إلى السلطة يتضح أن تلك المخاوف لم تكن سوى لعبة سياسية ومحاولات يائسة تهدف إلى بث الرعب في نفوس الناخبين من أجل التصويت لمرشحة الحزب الديمقراطي حينها السيدة هيلاري كلينتون، التي تمكن ترامب ـ الذي لم يكن يملك أي خبرة سياسية ـ من هزيمتها، ودخول البيت الأبيض في مفاجأة من العيار الثقيل لم يتوقعها حتى أكثر المتشائمين من الديمقراطيين.
وسواء اتفقنا مع سياسة ترامب أو أسلوبه في إدارة البلاد أم اختلفنا معهما، فقد أثبتت الأحداث المتوالية منذ تقلده السلطة أن النظام السياسي في الولايات المتحدة قوي ومتماسك ومستقل لن يستطيع أي رئيس مهما امتلك من قوة ونفوذ وشعبية أن يُخضع جميع المؤسسات له ويديرها حسب هواه.
فعلى سبيل المثال، لم يستطع ترامب إلغاء نظام الرعاية الصحية المعروف بـ”أوباما كير” على الرغم من محاولاته الحثيثة لتغييره، لكنه في المقابل استطاع إلغاء الاتفاق المتعلق ببرنامج إيران النووي الذي أبرمه سلفه أوباما.
توصل ترامب إلى اتفاق جديد مع المكسيك وكندا بخصوص التبادل التجاري الحر لدول أميركا الشمالية المعروف بـ”نافتا”، تم توقيعه مؤخرا على هامش قمة مجموعة العشرين في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. وعلى الرغم من أن الاتفاق الجديد فتح المجال أمام المزارعين الأميركيين لدخول سوق الألبان ومنتجات الحليب في كندا ودخول شركات الأدوية الأميركية إلى الأسواق الكندية بدون منافسة لمدة 10 سنوات بالإضافة إلى إبقائه على التعرفة الجمركية الخاصة بمنتجات الصلب والألمنيوم الكندية إلا أن الكونغرس الذي انتزع الديمقراطيين الأغلبية في مجلس نوابه في انتخابات التجديد النصفي الأخيرة قد يصوت ضده.
نجح ترامب في تعيين القاضي برت كافاناه في المحكمة العليا الأمر الذي يمثل انتصارا كبيرا للجمهوريين، لكنه في الوقت نفسه يواجه تحديات قضائية متكررة كان آخرها إبطال قاض فدرالي قراره التنفيذي القاضي بمنع القادمين ضمن قافلة المهاجرين من أميركا الوسطى الذين يعتزمون عبور الحدود والدخول إلى الولايات المتحدة من التقدم بطلب اللجوء للإقامة في أميركا الأمر الذي دفع ترامب إلى اتهام القاضي بأنه متحيز للرئيس السابق أوباما.
الرئيس ترامب الذي عزل وزير العدل جيف سيشنز فور انتهاء انتخابات التجديد النصفي لن يستطع وقف التحقيقات التي يقودها المحقق الخاص روبرت مولر بخصوص تدخل روسيا المفترض في الانتخابات الأميركية وتهم إعاقة التحقيقات لإقالة ترامب لجيمس كومي الرئيس السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي أي) والتي قد تؤدي في حال ثبوتها إلى عزله من منصبه.
ويرى البعض أن مراهنة البيت الأبيض على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على الرغم من تحذير وكالة المخابرات المركزية “سي أي إيه” من رعونته وعلى الرغم من انتهائها مؤخرا إلى مسؤوليته المباشرة في قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي ينم عن عدم تقدير الإدارة لجهود الوكالة وخبرتها، بل ذهب آخرون إلى حد اتهام ترامب بالحرص على تحقيق مصالحه الشخصية، في الوقت الذي يمكن تفسير الأمر بأنه دهاء سياسي يهدف من خلاله إلى تحقيق مكاسب كبيرة لإدارته خاصة في صفقات بيع الأسلحة والمعدات الحربية وكذلك على مستوى السياسية الخارجية الأميركية في المنطقة وتحديدا فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني في حال نجاة بن سلمان ووصوله إلى سدة الملك.
وبالإضافة إلى صراع ترامب مع الأجهزة التشريعية والقضائية فهو أيضا يخوض حربا لا تقل ضراوة مع وسائل الإعلام وخاصة تلك المقربة من الديمقراطيين، فهو يتهمها بترويج “الأخبار الزائفة”. بدورها، لم تتوقف وسائل الإعلام هذه يوما عن انتقاد كل حركات الرئيس وسكناته وتتحين كل فرصة للتقليل من شأنه وإظهار هناته.
لكن على الرغم من كل ذلك لا يملك ترامب الحق في إلغاء التصريح الخاص بالصحافيين لدخول البيت الأبيض ومتابعة الإيجاز اليومي أو حضور المؤتمرات الصحافية، فقد حكمت المحكمة ببطلان قرار البيت بإلغاء التصريح الخاص بمراسل قناة “سي أن أن” جيم أكوستا بعد دخوله في سجال حاد مع الرئيس.
لا شك في أن بإمكان الرئيس إساءة استخدام الصلاحيات التي يملكها في تعيين المسؤولين ليس بناء على مؤهلاتهم وقدراتهم وإنما بقدر ولائهم له، وعزل كل من يختلف معه وكذلك في إصدار الأوامر التنفيذية لتمرير السياسات التي يراها مناسبة، إلا أن هناك خطوطا حمراء بمجرد تجاوزه إياها يمكن للسلطات التشريعية عزله وسحب كل السلطات منه كما يمكن للأجهزة العدلية معاقبته في حال إدانته بانتهاك القانون.
وخلاصة القول، إن المخاوف التي يبديها كثيرون من خطورة ترامب على الديمقراطية في الولايات المتحدة هي في الغالب مبالغ فيها. فالرجل الذي يحكم البلاد منذ عامين يواجه تحديات متتالية من مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة فضلا عن وسائل الإعلام، ولو كان الأمر بيده لربما أخرس كل الأصوات المناوئة له كما يفعل الحكام في الأنظمة الأتوقراطية، ولكن هيهات له ذلك في ظل نظام حرص مؤسسوه على أن يكون متوازنا وتحظى السلطات فيه بالاستقلال التام عن بعضها البعض ويملك من الآليات والتدابير ما يكفي لردع كل من تسول له نفسه التمسك بالسلطة والانفراد بالحكم.
الحرة