د. عماد بوظو
في الحادي عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر 1911 ولد الأديب والروائي المصري والعالمي نجيب محفوظ. استمر في نشاطه الأدبي لأكثر من 70 عاما منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، كان خلالها غزير الإنتاج حيث كتب عشرات الروايات يدور أغلبها حول الحياة في أحياء القاهرة الشعبية، مدينته التي قضى حياته في حاراتها ومقاهيها ولم يغادرها طوال عمره المديد.
عكست مؤلفاته الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر، ومنها خرجت روائع الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي طبعت ثقافة أجيال كاملة من الناطقين باللغة العربية في مصر وخارجها مثل اللص والكلاب، وزقاق المدق، وبين القصرين، والقاهرة 30، وخان الخليلي، وقصر الشوق، والسمان والخريف، وميرامار، وثرثرة فوق النيل، والسكرية، والكرنك، وأهل القمة، ووكالة البلح، وقشتمر، وعشرات الأعمال الأخرى.
نال على كتبه العديد من الجوائز توّجت بجائزة نوبل للآداب عام 1988، وهي أرفع جائزة في مجال الإنجاز الأدبي في العالم؛ وهو الأديب العربي الوحيد الذي حصل على هذه الجائزة منذ تأسيسها عام 1901. وقالت مؤسسة نوبل عند تنويهها بالكاتب إن “إنجاز نجيب محفوظ العظيم والحاسم يكمن في إبداعه في مضمار الروايات والقصص القصيرة، ونتج عن إنتاجه ازدهار للرواية كنوع أدبي كما أسهم في تطور اللغة الأدبية في الأوساط الثقافية في العالم الناطق بالعربية، ولكن إنتاجه أوسع وأغنى بكثير ذلك أن أعماله تخاطبنا جميعا، كما أن إنتاج نجيب محفوظ أعطى دفعة كبرى للقصة كمذهب أدبي يتخذ من الحياة اليومية مادة له”.
مرّ نجيب محفوظ بمراحل عديدة في كتاباته؛ من المرحلة التي ركز فيها على التاريخ الفرعوني ودلالات الانتقال من تعدد الآلهة إلى التوحيد وعلاقات الحاكم بالرعية، إلى المرحلة التالية التي انتقل فيها إلى الواقعية الاجتماعية لمصر بين الحربين والنضال المصري في سبيل الاستقلال وتأثير العامل الاقتصادي على العلاقات الإنسانية وعلى المرأة تحديدا، ثم دخل مرحلة جديدة من الواقعية من خلال الملاحم في ثلاثيته “بين القصرين، قصر الشوق والسكرية” والتي اعتبرها اتحاد الكتاب العرب أفضل رواية في تاريخ الأدب العربي، كما علّق عليها طه حسين: “أتاح ‘نجيب محفوظ’ للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة ومن العمق والدقة ومن التأثير الذي يشبه السحر ما لم يصل إليه كاتب مصري قبله”. أعقبها برواية أولاد حارتنا ثم ملحمة الحرافيش، التي عملت على نقل الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في مصر لعدة أجيال، وفي المرحلة الأخيرة انتقل إلى الرمزية التي عكست رؤيته الفلسفية أو رحلته في البحث عن معنى للوجود.
في كل مراحله حافظ على انتقاده للسلطة والقمع. يقولون كلما غاص الكاتب عميقا في النفس البشرية كلما وصل إلى القواسم الإنسانية المشتركة بين مختلف الشعوب وانتقل أدبه إلى العالمية وصار من الممكن قراءته عند مختلف الشعوب، وفي كل اللغات وهذا ينطبق تماما على نجيب محفوظ.
في رواية أولاد حارتنا التي كتبها نجيب محفوظ بعد توقف خمس سنوات عقب ثورة يوليو/تموز 1952 انتهج أسلوبا رمزيا مختلفا عن رواياته السابقة. تدور أحداثها حول الأب الكبير الجبلاوي مالك الحارة وصاحب الكلمة العليا فيها، والذي كان الانطباع بأنه يرمز إلى الله، مع أولاده: أدهم هو تمثيل لشخصية آدم وإدريس هو إبليس، وجبل في دور موسى ورفاعة كتمثيل لشخصية عيسى والقاسم يرمز لمحمد، وفي الفصول الأخيرة للرواية يموت الجبلاوي حزنا نتيجة تمرد أبنائه عليه بمساعدة عرفة الذي يرمز للمعرفة. اعتبر خصوم محفوظ موت الجبلاوي دليلا على عدم إيمانه عندما أقدم في روايته على قتل الإله، بينما اعتبر مؤيدوه أن هذا دليل براءته وأن الإسقاطات الرمزية في الروايات لا تعني تقمص كامل الشخصية، واستدلّوا على ذلك من قيام قدري الناظر الذي يرمز للشر بقتل عرفة عندما حاول الهرب منه، وقالوا كيف يمكن قتل العلم أو المعرفة حسب الذين يريدون قراءة النص حرفيا.
نشرت الرواية على شكل سلسلة في جريدة الأهرام عام 1959، ومع تطورات أحداثها بدأت اعتراضات رجال الدين على محتواها. فالشيخ محمد الغزالي، الإخواني السابق والذي يصنف باعتباره معتدلا ومناهضا للتشدد والغلو، قال عن الرواية إنها إلحاد وعبث بتاريخ الديانات وإنها تقول إن الله خرافة وطالب بمصادرتها. وألف الشيخ عبد الحميد كشك كتابا يهاجم فيه الرواية لأنها نزعت القداسة عن الأنبياء وجعلتهم مصلحين اجتماعيين، كما هاجم القائمين على جائزة نوبل لأنهم كرّموا نجيب محفوظ “لما يحملون من حقد دفين على الإسلام”.
ومن بين الفتاوي العديدة التي اتهمت نجيب محفوظ بالكفر والإلحاد والزندقة قال العالم الأزهري والزعيم الروحي للجماعة الإسلامية عمر عبد الرحمن إن الكاتب مرتد، وكل مرتد وكل من يذكر الإسلام بسوء لا بد أن يقتل.
ونتيجة الحملة المنظمة على هذه الرواية وعلى نجيب محفوظ، أقدم شابان على طعنه في رقبته عام 1994 وأصابوه بجروح بليغة عندما كان في الثالثة والثمانين من عمره.
ورغم عدم صدور موقف حكومي رسمي بمنع نشر الرواية، غير أن نجيب محفوظ قرر نتيجة اتفاق بينه وبين حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس جمال عبد الناصر عدم نشر الرواية حتى يأخذ موافقة الأزهر عليها. ولم تأت هذه الموافقة أبدا، وبقي نجيب محفوظ ملتزما بوعده نتيجة طبيعته المسالمة، لكن الرواية نشرت في بيروت عام 1962 بدون موافقة كاتبها، وصدر قرار في 12 أيار/مايو 1968 عن أمين مجمع البحوث الإسلامية بمنع دخول الرواية إلى مصر، ولم تطبع في مصر حتى أواخر عام 2006 أي بعد 48 عاما من كتابتها وبعد وفاة مؤلفها!
كانت الحملة على نجيب محفوظ عام 1959 مصرية صرفة ابتداء من الذين هاجموه إلى الذين اتهموه بالكفر إلى من أهدروا دمه وحاولوا اغتياله؛ أي لا يستطيع المثقفون المصريون إلقاء مسؤولية ذلك على تغلغل الفكر الوهابي الصحراوي في البيئة المصرية المعتدلة كما يرددون هذه الأيام، ففائض الثروة الخليجي لم يكن قد ظهر بعد، والعلاقات السعودية ـ المصرية كانت بأسوأ أحوالها بل تحولت إلى صراع عسكري في اليمن عام 1962. بالتالي، من الأجدى البحث عن جذور التطرف داخل المجتمع المصري والعمل على معالجتها.
كما أثارت تلك القضية شكوكا حول وجود إصلاحيين أو متنورين في الجماعات أو المؤسسات الدينية المصرية، إذ لم يدافع عن نجيب محفوظ أو عن حريته في التعبير أحد منهم. والأهم من كل ذلك، أن قصة نجيب محفوظ قد كشفت عن تودد السلطة السياسية متمثلة وقتها بحكم جمال عبد الناصر لمؤسسة الأزهر مقابل استخدام السلطة لهذه المؤسسة في مواجهة حركات الإسلام السياسي وخاصة الإخوان المسلمين، وما ترتب على ذلك من السماح للأزهر بفرض شكل من أشكال الرقابة على المجتمع المصري من النواحي الثقافية والاجتماعية مقابل انفراد مؤسسة الرئاسة بالسلطة السياسية المطلقة. وهو ما شكل اتفاقا بين طرفين على حساب حرية الشعب المصري السياسية والثقافية والاجتماعية. وكان تقاسم الأدوار هذا بين السلطة السياسية ورجال الدين سابقة في مصر الحديثة، إذ مثلا عندما صدر كتاب طه حسين “في الشعر الجاهلي” في منتصف عشرينيات القرن الماضي قامت حملة قوية ضدّه بقيادة الأزهر لكن القاضي محمد نور رئيس نيابة مصر لم يخضع لضغوط الإسلاميين وحكم ببراءة طه حسين وأمر بحفظ أوراق القضية إداريا، قائلا هذا رأي أكاديمي لبروفيسور في الجامعة وليس من المفروض اتخاذ أي إجراء قانوني ضده لعدم توفر القصد الجنائي.
لم ينته تحامل الإسلاميين على نجيب محفوظ حتى اليوم، ويظهر ذلك إلى العلن كلما سنحت الفرصة؛ فعندما قرر محافظ الجيزة وضع تمثال لنجيب محفوظ تقديرا لأعماله على كورنيش النيل أمام منزله اعترض إسلاميون بحجة وجود مسجد وجمعية شرعية في المنطقة وكأن التمثال يسيء لهما. وكالعادة تراجعت الدولة أمام هؤلاء كما اعتادت طوال العقود الماضية ووضعته في مكان آخر. وليس من المستغرب أن يكون منهم من ينتظر الفرصة التي يستطيع فيها تحطيم هذا التمثال باعتباره صنما.
لم تتوقف حملة الإسلاميين على التفكير الحر والنقدي بل يزداد يوميا تمدد الدور الذي يأخذه رجال الدين في مراقبة الحياة الثقافية والاجتماعية المصرية عبر ملاحقة ما يكتبه الصحافيون وما يصرح به المثقفون وما يرتديه الفنانون، لأن الاتفاق بين السلطة السياسية في مصر ورجال الدين التي أبرمت بعد قضية كتاب أولاد حارتنا يبدو أنها ما زالت سارية المفعول حتى اليوم.
الحرة