عريب الرنتاوي
جعلت الحركات الاحتجاجية والحراكات الشبابية من “الدوار الرابع” في عمان، حيث مقر رئاسة الحكومة، قِبلة لها، ووجهة لحشودها الغاضبة، طوال الأشهر الماضية… ومنذ أن نجح المحتجون في الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء السابق هاني الملقي، اكتسب الدوار دلالة رمزية وأصبح للحركات الشبابية “عنوان” يحفظونه بكل فخر. وليس مستبعدا أن يتكرس مع الأيام كـ”أيقونة” لحركات الاحتجاج الشعبية الأردنية، مثلما كان لساحات مثل “دوار التحرير” و”ساحة التغيير” و”شارع الحبيب بورقيبة”، من معاني ودلالات رمزية اكتسبتها في سياق الربيع العربي، بصرف النظر عن تباين الظروف واختلاف السياقات.
يجادل بعض الخبراء والمحللين، بمحدودية هذا الحراك، وتواضع أعداد المنخرطين في أنشطته الجماعية؛ وهذا صحيح إذا ما قورن بالأعداد الغفيرة التي خرجت في أيار/مايو الفائت، وتوجهت إلى المكان ذاته: “الدوار الرابع”. لكن الصحيح أيضا، أن “النواة الصلبة” للحراك، ما زالت تبدي تصميما على مواصلة احتجاجاتها وتحركاتها الغاضبة، متشجعة بحجم المنجز الذي حققته في آخر وأكبر جولة من الاحتجاجات قبل نصف عام تقريبا: إسقاط الحكومة.
في مقال سابق في موقع الحرة، وتحت عنوان: “بعد ثماني سنوات على انطلاقته، هل يلتحق الأردن بقطار ‘الربيع العربي’؟”، ذهبنا إلى تحليل المكونات الاجتماعية الحراك الشبابي والشعبي، وقلنا إنها المرة الأولى منذ ثلاثة عقود على استئناف الحياة البرلمانية والحزبية في الأردن، التي تأخذ فيها العاصمة دور الأطراف في قيادة الحراك الاجتماعي، وإنها المرة الأولى التي تنخرط فيها “الطبقة الوسطى” بمختلف مكوناتها وشرائحها في الحراك، وإنها المرة الأولى التي يجذب فيها الحراك قوى وفئات اجتماعية، لم تألف المشاركة في الاحتجاجات ولم تعتد عليها، وإن المتظاهرين على الدوار الرابع، كانوا بمثابة لوحة مجسدة للتعددية الأردنية، السياسية والفكرية والاجتماعية، وإن النساء والمجتمع المدني والمثقفين كان لهم حضورا متميزا في الحراك وإن بأشكال ومستويات مختلفة.
خلال الأشهر الستة الفائتة، نجحت الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور عمر الرزاز، في تحييد بعض الفئات التي شاركت في احتجاجات أيار/مايو، وهي وإن لم تكسب تأييدها لسياسات الحكومة، إلا أنها ضمنت بقاءها بعيدا عن الشارع، وفي حالة من “التردد والمراوحة”، وينطبق ذلك على النقابات المهنية التي لعبت تاريخيا دورا مؤثرا في الحياة السياسية والاجتماعية، كما ينطبق على قطاع الأعمال، الذي سجل حضورا أقل في الاحتجاجات الجارية حاليا.
وإذ سيطر شعور بالخذلان والتخلي على “النواة الصلبة” للحراك الشبابي الاجتماعي، بسبب المواقف التي وصِفَت بـ”المتخاذلة” لبعض شركائها في أحداث أيار/مايو، وعبرت عنه بتوجيه انتقادات حادة للنقابات المهنية خصوصا، فإن ذلك لم يمنع مئات النشطاء والناشطات من مواصلة تحركاتهم، بل وتحدي حالة الطقس السيئة جدا، والخروج إلى الشوارع وصولا لـ”الدوار الرابع”.
كما أن إقرار مجلس الأمة، بغرفتيه النواب والأعيان، لقانون الضريبة، والذي لا يختلف كثيرا عن مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة السابقة، وسقطت بفعل تداعياته ومفاعيله، لم يدفع بهؤلاء الشبان والشابات للتسليم بالأمر الواقع، والإقرار بفشل محاولتهم منع تمرير فرض ضرائب جديدة على المواطنين، بل على العكس من ذلك، رأينا كيف دفع إقرار القانون بهؤلاء إلى رفع “سقف” شعاراتهم، والانتقال بها من “المطلبي” إلى “السياسي”، في تعبير عن حالة غضب واحتقان متراكمة، تتغذى بفشل حكومة الرزاز في تنفيذ وعودها وتعهداتها لهم، كما يتضح من شعاراتهم وهتافات حناجرهم.
وفي تحليل لمضامين الشعارات والهتافات التي يصدح بها المحتجون والمتظاهرون في “الدوار الرابع” أو على مقربة منه، يمكن الوقوف عند أبرز المضامين والدلالات الأكثر أهمية، ومنها:
أولا: الرهان على إحراج “المترددين” ودفعهم لتجاوز ترددهم، والمراهنة على انضمام أعداد متزايدة من المواطنين إلى صفوفها، وإن في مرحلة لاحقة. لكأنهم بما يفعلون يقومون بأدوارهم نيابة عن شرائح أوسع من المواطنين… فحين يردد المتظاهرون شعار “يا للي قاعد على الرصيف، بكرا مش ح تلاقي رغيف” فإنهم يؤكدون بذلك على أن مطالبهم تخص أوسع الفئات الشعبية الأردنية، وأنها ليست مطالب خاصة بالمحتشدين على الدوار في ظروف مناخية بالغة السوء والصعوبة.
ثانيا: إن المحور الرئيس الذي يتصدر شعاراتهم وتدور حوله هتافاتهم، إنما يتمثل في إدانة الفساد والفاسدين والمفسدين، والمطالبة بسياسات وإجراءات صارمة لمحاربة هذه الآفة التي تثقل كاهل الاقتصاد الوطني، وتتسبب بأزماته الخانقة والمتلاحقة من وجهة نظرهم… ولعل كلمات من نوع: “حرامية” و”باعوا الوطن بالدولار” وباعوا “الميناء والمطار”، هي غيض من فيض ما صدحت به حناجرهم ورددته ألسنتهم.
ثالثا: المطالبة بالانتقال من نهج اقتصادي مُصمم لخدمة أصحاب الرساميل الكبيرة وكبار المتنفذين في جهاز الدولة، إلى نهج اقتصادي يراعي الطبقات المهمشة ويعيد بناء الطبقة الوسطى، ويكفل العدالة في توزيع الدخل والثورة… هنا بالذات، جرى التركيز على رفض قانون ضريبة الدخل الجديد، والمطالب باعتماد منهجية جديدة لتسعير المحروقات وإعادة النظر في قيمة الضرائب المفروضة على استهلاك الطاقة الكهربائية، وغير ذلك من مطالب ذات مساس مباشر بحياة المواطنين من معظم الشرائح الاجتماعية.
رابعا: الانتقال من الشعار “المطلبي” إلى الشعار “السياسي”، وهنا احتلت قضية الحريات العامة مكانة مركزية في لائحة المطالب والشعارات المرفوعة: إصدار عفو عام عن السجناء، إطلاق سراح نشطاء الحراكات الموقفين، سحب قانون محاربة الجرائم الالكترونية المثير للجدل والمقيّد للحريات… وفي هذا السياق، جرى توجيه انتقادات حادة للأجهزة الأمنية التي تقوم احتجزت بعض من نشطاء الحراك، كما تم توجيه انتقادات لمحكمة أمن الدولة، التي يجري عرضهم عليها، باعتبارها محكمة استثنائية.
خامسا: رسم المشاركون خريطة طريق للانتقال السياسي، تبدأ بتشكيل “حكومة إنقاذ وطني”، بما يعني ترحيل مبكر لحكومة الدكتور الرزاز، وحل مجلس النواب وإجراء انتخابات نيابية مبكرة بقانون انتخابي جديد، وإلغاء الغرفة الثانية في مجلس الأمة الأردني: “مجلس الأعيان” المُعيّن من قبل الملك.
ومما تجدر ملاحظته، أن لائحة المطالب والشعارات المطلبية والسياسية التي ترفعها “النواة الصلبة” لحركات الاحتجاج الشبابية والشعبية، تكاد تلتقي مع الشعارات والمطالب التي ترفعها قوى سياسية وحزبية واجتماعية وشخصيات وطنية عديدة، وجاءت على ذكرها، عشرات المذكرات التي وقعتها شخصيات وطنية خلال الأعوام القليلة الفائتة، الأمر الذي يزيد في قناعة هؤلاء المحتجين بأنهم بأخذهم دور الريادة في “النزول إلى الشارع” فإنهم إنما يعبرون عن مصالح الغالبية العظمى من الأردنيين.
والحقيقة أن الأعداد المتواضعة نسبيا للمشاركين في الاحتجاجات على “الدوار الرابع” لا يجب أن تحجب حقيقة أن كثرة من الأردنيين، تبدي تعاطفا مع مطالبهم وشعاراتهم، معظمها على الأقل، وأن استنكاف الغالبية عن المشاركة في الاحتجاج إنما يعود لأسباب شتى، من بينها ضعف الأحزاب السياسية وتراجع مكانة النقابات المهنية، والخشية الشعبية على الامن والاستقرار في ضوء الدروس القاسية لتجارب بعض دول الربيع العربي…
لكن أحدا لا ينبغي أن يسيء فهم المعادلة بين الحراكيين من جهة والرأي العام من جهة ثانية، أو أن يستبعد سيناريو اتساع الحراكات وانضمام فئات وشرائح جديدة إلى أنشطته، وربما اتخاذها أنماطا وأشكالا أكثر ميلا للعنف والخشونة، إذا ما ظل الحال على هذا المنوال.