محمد المحمود
إذا كان الفيلسوف الإيطالي الكبير بنديتو كروتشه يقول: “كل التاريخ تاريخ معاصر”، فمن البديهي أنه لا يقصد بذلك حضور التاريخ بوقائعه في الحاضر، كما لا يقصد ـ بالدرجة الأولى ـ أن أحكام التاريخ تسري على الحاضر؛ من حيث هو/ الحاضر نتاج وقائع ذلك التاريخ بصورة ما، وإنما يقصد أن التاريخ (من حيث هو منتج ثقافي يُشكّله المؤرخون في سردياتهم) مكتوب بهموم الحاضر، وعلى ضوء المعاناة الراهنة الخاصة بشخص ما/ المؤرخ، في زمن ما/ زمن المؤرخ، وفق الشرط الثقافي/ ثقافة المؤرخ، المشروطة بأفق الوعي العام المتشكّل بحدود الزمان والمكان.
وبما أن التاريخ علم، أو هذا هو مطمحه الذي لا يريد التنازل عنه؛ رغم الشغب المستمر على هذا الطموح، فإن كثيرا من المؤرخين، بمن فيهم فلاسفة التاريخ، أرادوا الوفاء لأهم وأوثق شروط العلم: شرط الحياد. ومقتضى هذا الشرط ـ كما يعتقدون ـ أن على المؤرخ أن يتجنّب كل حكم أخلاقي؛ مكتفيا بتوثيق الوقائع وتفسيرها وتعليلها؛ دون أن يتخذ منها أي موقف قيمي، فلا ينزلق إلى إصدار الأحكام على الأشخاص والجماعات، أو حتى الوقائع؛ لأنه بمثل هذه الأحكام سينتقل من موقف العالم الراصد والمفسر الموضوعي الذي يتناول مادته البحثية بحياد، إلى موقف يكون فيه قاضيا، بل وربما يبدو وكأنه أحد أطراف الصراع.
يذكر أحمد محمود صبحي في كتابه “في فلسفة التاريخ” اعتراض بعض فلاسفة التاريخ على وضع المؤرخين أنفسهم قضاة يصدرون الأحكام من أعلى محكمة/ محكمة التاريخ، ويذكر على وجه التحديد قول كروتشه: إن إدانة المؤرخين للشخصيات التاريخية فيه تجاهل لأصول القضاء، إذ أننا في محاكمنا العادية نحاكم متهمين أحياء؛ فلا يصح أن يُسْتدعَى من أصبحوا في ذمة التاريخ للمحاكمة، لأنه لا يمكن أن يُحاكموا مرتين، في حياتهم وبعد مماتهم، حسبهم أن يكونوا موضع دراسة المؤرخ بعد أن أصبحوا من الماضي، أما الذين يُنصّبون أنفسهم قضاة يُدِينون هذا ويُبرّئون ذاك، ويعتقدون أن هذه هي وظيفة التاريخ فإنهم يتصفون بخلوهم من الحماسة التاريخية “في فلسفة التاريخ، ص100″.
يرى صبحي أن كروتشه هنا قد تجاهل اعتبارين:
الأول: أن الشخص التاريخي ما دام قد مات وهو على كرسي الحكم ـ وهذا هو الأغلب ـ فإنه لم يحاكم في حياته؛ لأن لا أحد يجرؤ على نقد أفعاله، ويضرب مثلا بـ”كروتشه” نفسه الذي جرب مثل هذا الوضع في عهد موسوليني.
الثاني: أن الحكم على من أصبحوا في ذمة التاريخ، لا سيما إن مرّ على وفاتهم زمن طويل، أكثر موضوعية من الحكم عليهم في حياتهم، إذ إن مرجل الأحداث لا زال يغلي، فلا تتضح الرؤية، فضلا عن كون ضحايا الظالم لا يزالون على قيد الحياة، ومن ثم فإنهم يؤثرون عاطفيا على حكم المؤرخ، بخلاف من أصبح هو وضحاياه في حكم التاريخ، مثل شرلمان أو نابليون.
ويعضد صبحي رده الموجز هذا، بتأكيده على أن الحكم التاريخي لا يتعلق بالسيرة الذاتية للشخصية التاريخية؛ ما دامت لا ترتبط هذه السيرة بأعماله العامة التي هي موضوع دارسة المؤرخ. بل الأمر على العكس؛ حيث إن كثيرا من مؤسسي الدول اتسمت حياتهم الخاصة بدرجة عالية من الاستقامة، عكس حياتهم العامة التي تنطوي على كثير من الظلم، كما هو حال مؤسسي الدولة العباسية: السفاح والمنصور (في فلسفة التاريخ، ص101).
طبعا، هناك حجج كثيرة لدعاة الموضوعية/ الحياد، ذلك الحياد الذي يقتضي ـ في نظرهم ـ عدم إطلاق الأحكام على شخصيات التاريخ. فهم أحيانا يجادلون بأن ميل الإنسان إلى تشخيص ما هو عام يجعل من الكوارث الكبرى مسؤولية شخص واحد، أو بضعة أشخاص على الأكثر، كما هو الحال في تحميل هتلر مسؤولية كل كوارث الحرب العالمية الثانية، بينما شارك في بلورة الرؤى النازية وتفعليها كثير من المفكرين والفنانين والإعلاميين والقواد. ثم هم يؤكدون أن هناك من الكوارث والمآسي ما يستحيل تجسيده؛ لاتساع نطاقه، وكثرة المشاركين فيه، كالاستعمار مثلا.
وبالتالي، فإن إدانة بضعة أشخاص به يخالف مقتضى الحيادية العلمية، فضلا عن كون بعض الوقائع وقعت كاحتمال بين جملة احتمالات، وربما كانت الاحتمالات الأخرى أكثر ضررا مما حدث فعلا.
في تقديري أن هذه المسألة محكومة بحقيقة مفادها: أن لا نص محايد، لا تاريخي، ولا غير تاريخي (وهذه مسألة طويلة، تدخل فيه إشكالية مرونة اللغة كوسيط). لكن، وأيا كان الأمر في هذا الموضوع الشائك، لا يعني تعذّر الحياد التام، أن نزهد في الحياد/ النسبي الذي يتقرر به الحكم النسبي، فالنسبية في النهاية تدخل حتى في أحكام القضاء، وفي أكثر القضايا وضوحا؛ فلا عدل بالمطلق؛ لاستحالة الإطلاق في المعرفة بكامل تفاصيل القضية، وتعذر الفصل التام بين عناصرها من ظروف ودوافع…إلخ. بل إن النسبية تدخل حتى في أشد فروع العلم التجريبي انتظاما، فكيف بالفضاء المرن للعلوم الإنسانية التي ينتسب إليها علم التاريخ.
من هنا يصبح الحكم على وقائع التاريخ وشخصياته المؤثرة متاحا في حدود المعطيات المتوفرة، من وثائق/ مادة تاريخية، ومن مناهج بحثية يستثمرها علم التاريخ في تطوره المستمر.
ثم إن المؤرخ إذا حَكَم فإنه لا يحكم على “غيب”؛ كما يزعم بعض مناصري فكرة الحياد الموهومة، بل لا يعنيه حقيقة الواقعة التاريخية في صورتها الغيبية التي يستحيل الإحاطة بها، بل إن كل ما يعنيه كمؤرخ، هو حقيقة الواقعة التاريخية كما تعكسها مجمل الوثائق المتاحة؛ حيث إن الوقائع والشخصيات لم يعد لها وجود في الواقع العيني بعد انقضاء لحظتها. وما بقي منها مجرد “صورة ممكنة” تطرحها في النهاية هذه الوثائق، بعد التوثيق والتحقيق والبحث العميق، بما فيه القراءات التأويلية؛ ليأتي الحكم ـ صريحا أو متضمنا ـ على هذه الصورة التي يُفترض فيها أنها انعكاس مقارب للواقع، أي لما حدث في التاريخ.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن مناصري “وهم الحياد” يؤكدون على ضرورة أن يكتفي المؤرخ بالتوثيق والتفسير والتعليل؛ دون إطلاق الأحكام الأخلاقية/ القيمية. وفي الحقيقة هذا مستحيل، فحتى لو أراد المؤرخ أن يكتفي بهذا؛ فلن يخلو توثيقه وتفسيره وتعليله من أحكام صريحة أو متضمنة. فمثلا، عندما ينقل المؤرخ بحياد علمي خبر مفاده أن الحجاج بن يوسف، والي عبدالملك بن مروان على العراق، قتل في يوم دير الجماجم ثلاثة آلاف من الأسرى صبرا، فإن الحكم الأخلاقي هنا متضمن بالضرورة في الخبر.
هنا، لا يحتاج المؤرخ أن يصدر حكما؛ فيؤكد صراحة بأن الحجاج مجرم وطاغية، وأن عبدالملك كذلك بالتبع وبالأصالة، فالحكم هو ذات الخبر الذي يرصد الواقعة بحياد. وعندما يقول المؤرخ ـ معززا قوله بالوثائق: إن النظام النازي قام بإبادة الملايين، فالحكم الأخلاقي/ القيمي يفرضه الخبر؛ قبل أن يتفوّه به المؤرخ.
إن الحكم الأخلاقي على وقائع التاريخ لا ينافي الحياد ولا الموضوعية، وبالتالي لا ينافي العلم. إذا كان الحكم مبنيا على بحث موضوعي محايد، فهو حكم ـ رغم نسبيته ـ محايد. ولو صرفنا النظر إلى العلوم البحتة/ التطبيقية، فإننا سنجد أن الأبحاث العلمية في مجال الطب، أثبتت ـ وبحياد علمي ـ أضرار التدخين، ثم حكمت حكما أخلاقيا ـ متضمنا في هذا الحكم الصحي ـ على التدخين بأنه ممارسة سلبية مضرة بالإنسان.
وإذا كان الاختلاف في معايير التقييم الأخلاقي بين عصر وعصر، هو أيضا مما يتعذر به متوهمي الحياد في رفضهم إصدار الأحكام على شخصيات التاريخ، فإن المعايير الأخلاقية الإنسانية واحدة في أصولها؛ حتى وإن اختلفت في بعض تفاصيلها وفقا لمتغيرات الظروف الزمانية والمكانية. صحيح أن بعض الممارسات كانت مقبولة وطبيعية في عصرها، وبالتالي لا يجوز محاسبة الماضي بمقتضى تطورات الوعي الراهن.
لكن، وفي كل الأحوال، لا أحد يقول بأن قتل عشرات الألوف من الأبرياء أمر طبيعي، ومبرر في عصر سابق، لا أحد يقول بأن ما فعله هولاكو أو تيمور لنك أو ستالين…إلخ، لا يجوز إصدار حكم معاصر عليه؛ لاختلاف “زمن الواقعة” عن “زمن الدرس التاريخي”.
لا يمكن أن يمر المؤرخ على فظائع هؤلاء وأمثالهم؛ فيضعهم ـ من حيث التقييم الأخلاقي ـ في صف واحد مع “الأسوياء” من رموز التاريخ القديم أو الحديث.
الحرة