السلايدر الرئيسيتحقيقات
الأوكرانيّون ومتاهات الخيارات الصعبة بين الوعود الغربيّة والضمانات الروسيّة.. فماذا بعد؟
جمال دملج
– بيروت – من جمال دملج – بينما لا تزال الأوضاع المتأزِّمة على الساحة الأوكرانيّة تأخُذ الحيِّز الواسع الذي تستحقّه من اهتمامات دوائر الرصد والمتابعة في أماكنَ مختلفةٍ من العالم، نظرًا لما يشكِّله الموقع الجغرافيّ المتمايز لهذه الدولة من أهمّيّةٍ بالغةٍ في حسابات الدول الكبرى الراغبة في “زكزكة” روسيا من خاصرتها كلَّما اقتضَت الضرورات الاستراتيجية ذات الصلة بآليّات لعبة التنافُس على المصالح والنفوذ القيام بمثل هذا الفعل، جاءت نتائج استطلاعات الرأي التي تمَّ الكشف عنها اليوم الثلاثاء لتؤكِّد ما بات في حُكم المؤكَّد عن أنّ الأوكرانيّين لا يزالون يدفعون وحدهم ثمن الأخطاء الناجمة عن سوء تقدير إدارة الرئيس بيترو بوروشينكو لدى قيامه بوضْع رهانه كاملًا فوق طاولة الغرب الأميركيّ والأوروبيّ، من دون أن يحسب أيّ حسابٍ لـ “خطّ الرجعة” إلى روسيا، ولا سيّما بعدما أظهرَت تلك النتائج، وفقًا لمسحٍ أجراه “معهد كييف الدوليّ لعلم الاجتماع”، أنّ نحو ثمانينَ في المئة من المستطلَعين يلومون الحكومة الحاليّة على المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة المتفشِّية في البلاد، إمّا لأنّ رجال الدولة غيرَ أكفّاءٍ وإمّا لأنّ الفاسدين هم الذين يمسكون بزمام السلطة، ناهيك عن أنّ نحو خمسةٍ وثلاثينَ في المئة منهم يستبعدون فرضيّة تحسُّن الوضع في المستقبل القريب، وهي النتائج التي جاءت في المحصِّلة النهائيّة مكمِّلةً تمامًا لنتائجِ استطلاعٍ آخَرَ كان قد أُجريَ في وقتٍ سابقٍ من الشهر الفائت على خلفيّة قيام خفر السواحل الروسيّ باحتجاز ثلاثِ سفنٍ عسكريّةٍ أوكرانيّةٍ بالقرب من “مضيق كيرتش” الفاصِل ما بين بحر آزوف وما بين البحر الأسود، وعبَّر فيه معظم الأوكرانيّين عن عدم رضاهم حيال رغبة الرئيس بوروشينكو في إلغاء معاهدة الصداقة والتعاون بين روسيا وأوكرانيا للردّ عمليًّا على هذا الحادث.
وإذا كان اثنان لا يختلفان على أنّ مسار العلاقات الروسيّة – الأوكرانيّة خضَع خلال العقود الثلاثة الماضية للكثير من إرهاصاتِ مزاجيّةِ المدِّ والجزْرِ والكرِّ والفرِّ، بدءًا من مرحلة تفكُّك الاتّحاد السوفييتيّ عام 1991 واتّفاق موسكو وكييف على تقاسُم الترِكة العسكريّة السوفييتيّة بالمناصَفة بينهما، مرورًا بـ “الثورة البرتقاليّة” التي أفضت إلى تسلُّم الرئيس فيكتور يوشينكو الموالي للغرب مقاليد الحكم في البلد عام 2004، ومن ثمّ بعودة البرتقاليّين عن الاسترسال في خوض مغامراتهم المتهوِّرة على حساب ركائز الأمن القوميّ الروسيّ ممّا أدّى إلى تسلُّم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا مقاليد الحكم عام 2010، وانتهاءً بحركة الاحتجاجات التي أفضت إلى الإطاحة به جرّاء انقلابٍ مسلَّحٍ استُخدمَت فيه الأموال الغربيّة ومجموعات من المرتزقة الأجانب غبَّ الطلب عام 2014، فإنّ اثنين من المتابعين لهذا المسار لا يمكن أن يختلفا أيضًا على أنّ العلاقات بين البلدين لم يكن ليُقدَّر لها أن تصِل إلى ما وصلَت إليه على مقياس التدهوُر المزري لولا سيْل الإجراءات الانتقاميّة التي دأبَت إدارة الرئيس بوروشينكو على اتّخاذها تِباعًا ضدَّ روسيا، وهي الإجراءات التي لم تقتصِر حتّى الآن على الجوانب السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وحسب، بل تكاد تقضي في هذه الأيّام على الروابط الوجدانيّة بين الشعبين إلى غيرِ رجعةٍ، ولا سيّما في ظلّ الحديث الرائج حاليًّا عن احتمال اتّخاذِ قرارٍ كنسيٍّ في وقتٍ لاحقٍ من الشهر الجاري بخصوص فصْل الكنيسة الأرثوذكسيّة الأوكرانيّة عن الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة.
وعلى رغم كافّة المحاذير التي من شأنها أن تندرج في إطار التداعيات المرتقَبة لهذه الخطوة إذا ما قُدِّر لها أن تصبح أمرًا واقعًا بالفعل، فإنّ أكثر ما يُثير الاستغراب في موازاة المشهد العامّ للتطوُّرات السياسيّة والعسكريّة الراهنة بين موسكو وكييف هو أنّ الرئيس الأوكرانيّ الحاليّ يبدو عازمًا حتّى النخاع على مواصلة السير في اتّجاه الدخول في معركة “كسْر العظم” مع روسيا، معوِّلًا في ذلك على إمكانيّة استدراج الغرب الأميركيّ والأوروبيّ لمؤازرته بشكلٍ ميدانيٍّ مباشِرٍ على جبهات القتال، علمًا أنّ حصيلة المقاربات الخاصّة برصدِ ردودِ الأفعال الدوليّة حيال احتجاز السفن الأوكرانيّة الثلاث في بحر آزوف أظهرَت بوضوحٍ أنّ ثمّةَ ميْلًا أميركيًّا وأوروبيًّا وأطلسيًّا لعدم السير في اتّجاه التصعيد مع روسيا، اللهمّ إلّا عبْر المواقف الإعلاميّة والبيانات الرسميّة الخجولة، الأمر الذي لا بدَّ من أن يؤدّي في نهاية المطاف إلى تركِ الرئيس بوروشينكو وحيدًا في الميدان، إذا ما قُدِّر له أن يتمكَّن اعتبارًا من الآن ولغاية شهر آذار (مارس) العام المقبل من رفع أسهمه للفوز بمعركة الانتخابات الرئاسيّة المقبلة، الأمر الذي يبدو في هذه الأثناء، وبالنظر إلى نتائج استطلاع الرأي الآنف الذكر، من رابع المستحيلات… وحسبي أنّ الأوكرانيّين يقفون للتوّ أمام أخطر مفترقٍ مفصليٍّ في تاريخهم الحديث في مواجهة الكثير من الخيارات الصعبة، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار، علاوةً على كلِّ ما تقدَّم، أنّ أزمتهم الاقتصاديّة الخانقة باتت مرشَّحةً للتفاقم أكثرَ فأكثرَ إذا ما فوَّتوا على أنفسهم فرصة إعادة المياه إلى مجاريها مع روسيا، على غرار ما حصَل عام 2010، وخصوصًا بعدما دلَّت لغة الأرقام مؤخَّرًا إلى أنّ مجرَّد بدءِ العمل العام المقبل على خطوط أنابيب الغاز الروسيّة الجديدة، سواءٌ عبْر البحر الأسود إلى تركيا أم عبْر بحر البلطيق إلى ألمانيا، وبالتالي إلى دول الاتّحاد الأوروبيّ، سيؤدّي تلقائيًّا إلى انخفاضِ كمّيّةِ الغاز الروسيّ المنقول عبْر الأراضي الأوكرانيّة بنحو ثلاثةَ عشرَ مليارَ مترٍ مكعَّبٍ سنويًّا، الأمر الذي يعني أنّ عائدات خزينة الدولة من ترانزيت الغاز، بلغةِ الأرقام أيضًا، ستنخفض من ثلاثةِ ملياراتِ دولارٍ سنويًّا إلى ما يتراوح بين مئتينِ وخمسينَ وسبعمئةٍ وخمسينَ مليونِ دولارٍ فقط… وحسبي أنّ لا أحدَ في الغرب الأميركيّ والأوروبيّ يبدو مستعدًّا في الوقت الراهن لتعويض الأوكرانيّين عن هذه الخسارة… والخير دائمًا في استطلاعات الرأي وصناديق الاقتراع والخيارات الصائبة من وراء القصد.