“علبة الكبريت”، هكذا وصف الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك مبنى قناة الجزيرة في الدوحة حين زارها في تسعينات القرن الماضي، وقد أثارت القناة حينها نزاعات وأزمات عديدة بين قطر ومصر.
وصف الرئيس المصري جاء في سياق زيارته في نهاية التسعينات إلى مبنى القناة وقد تفاجأ بالمبنى الصغير للقناة، فالتفت إلى وزير إعلامه حينها وألقى ملاحظته “حمالة الأوجه” مندهشا أن كل الأزمات تخرج من علبة الكبريت الصغيرة هذه.
لكن، حريق غابة كبيرة يكفيه عود ثقاب واحد..ليشتعل.
ملاحظة الرئيس مبارك، كانت في فترة ذروة صعود القناة العربية التي كان شعارها ولا يزال، اسمها بالخط المزخرف يخرج من مياه ساكنة وراكدة، والنقطة تقع في المياه لتحريك الراكد، شعار ذكي ومشغول بعناية واحتراف.
تلك الفترة كانت بإدارة القطري محمد جاسم العلي، والذي يجمع كل من عمل معه، أن عهده كان عهد الاستقلالية للقناة، واستقطاب كل المصداقية الممكنة في العالم العربي، وهذا ما حصل فعلا!!
لكن، بعد هذا الرصيد الضخم والانفراد الخرافي بالجماهيرية العربية حد الاستحواذ على الرأي العام، كان للدوحة رأي آخر، في نفس قناة الرأي والرأي الآخر، وتلك كانت النقطة المفصلية التي ترافقت مع عزل محمد جاسم العلي (صانع مجد الجزيرة الحقيقي)، واستحضار من احتضنتهم الدوحة حلفاء سياسيين فصاروا من “أهل البيت” والقرار والسلطة، ونقصد جماعة الإخوان المسلمين وتيارات الإسلام السياسي الراديكالي التي ارتأت الدوحة أن في استخدامهم أدوات في يدها سيحقق طموحها بتجاوز جغرافيتها المحدودة لتكون قوة إقليمية ودولية، لكن الحسابات على ما يبدو وعلى مر السنين انقلبت لتصبح الدوحة نفسها أداة بيد أحد أقدم التنظيمات السياسية حضورا في العالم العربي، فكانت الجزيرة بالضرورة بعد ذلك، منبر الإخوان المسلمين برؤية عصرية وذكية استثمرت في رصيد جماهيريتها الهائل لتكمل مشروع الاستحواذ على الرأي العام، بل وتقود القناة نفسها ثورات الربيع العربي بما يتجاوز الكاميرا وحاملها ومن يقف أمامها.
لماذا أتحدث عن الجزيرة ، ولا أتحدث عن – منافستها في الخندق المقابل- العربية مثلا؟
حسنا، العربية منذ البداية وكجزء من مجموعة شبكة إم بي سي، عرفت نفسها أنها سعودية، بل إن “السعودة” تأكل عروبة القناة موسما بعد موسم وقد تصل إلى حد لا تتجاوز فيه جماهيريتها حدود تبوك شمالا، لكن الجزيرة منذ انطلاقتها وهي مصرة على تعريف نفسها بأنها عربية حدودها العالم، وأنها منبر من لا منبر له، وأنها قناة الرأي والرأي الآخر، ورغم تولي مراسل بمؤهلات مهنية متواضعة قريب من الإخوان إدارة القناة، ثم يعقبه مدير آخر معروف بولاءاته الإخوانية، وتغيير كل خط التحرير في القناة بما يخدم الأجندة الإخوانية، إلا أن القناة ظلت مصرة وبعناد على أنها قناة عربية – عالمية مستقلة!! وهذا استغباء..يستفز الأسئلة بحثا عن أجوبة.
نحن أمام مقدرات مالية خرافية هائلة مدعومة بالغاز المسال تحت تصرف أخطر تيار راديكالي وضع مؤسسه “سيد قطب” معالم طريقه باعتبار كوكب الأرض كله ساحة جهاد مباحة ومشروعة، ويتولى وريثه الممنوع من دخول الولايات المتحدة وبريطانيا الشيخ يوسف القرضاوي استئناف “النهج” الإخواني لكن بأدوات لم تتوفر لقطب، وأولها الجزيرة.
—
في الشهر الماضي (آب- أغسطس) وقع الرئيس دونالد ترمب قانون موازنة الدفاع الأمريكية، والتي حملت بين ثناياها تعديلا تشريعيا يرتبط بالعديد من المنصات الإعلامية الأجنبية الناشطة في أميركا.
التعديل الذي يقع في القسم 1085 من قانون الموازنة، يفرض على وسائل إعلام أجنبية تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها التسجيل لدى لجنة الاتصالات الفدرالية “أف سي سي” والإفصاح عن الرابط بينها وبين الحكومة أو الشخص أو الهيئة الأجنبية التابعة لها وأي تمويل تتلقاه منهم.
ويخص التعديل التشريعي بالذكر وسائل الإعلام التي “تنتج أو توزع برامج فيديو يتم أو ينوى بثها … لمستهلكين في الولايات المتحدة.
وحسب الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام، فإن أعضاءا بمجلس النواب الأميركي من الحزبين الديموقراطي والجمهوري قد طلبوا خلال الأشهر الماضية بإلزام مؤسسات إعلامية أجنبية بالتسجيل لدى وزارة العدل وفقا لقانون “تسجيل العملاء الأجانب” FARA الذي يتعلق بالأشخاص الذين يعملون لدى حكومات أو أشخاص أو هيئات أجنبية “في نشاط سياسي أو شبه سياسي”.
وقد كان من بين وسائل الإعلام التي تم التنبيه عليها من قبل هؤلاء المشرعين، شبكة الجزيرة القطرية، و قناة روسيا اليوم!!
تلك انتباهة في وقتها، لقناة يرى فيها المشرع الأمريكي مدعوما بمعلومات استخبارية أنها تمارس السياسة لا الإعلام، وتروج للسياسات بدلا من ممارسة المهنة الإعلامية.
لقد تم رصد العديد من نقاط “اللامهنية” الفاضحة لقناة الجزيرة التي لا تزال تحاول التنفس برصيدها الجماهيري “الإخواني”، ولم يقف الأمر عند فضيحتها الأخيرة الشهر الماضي بخبر هجوم صاروخي على مطار دبي، ونشرها صورا لطائرة محترقة من حادث سابق، بل تعدى ذلك إلى رصد للقناة وهي تعمل على تحويل تقارير صحفية منشورة في صحف غربية رصينة تتحدث بسلبية عن قطر، إلى تقارير إيجابية بتزيور مفضوح، مثل فضيحة تقرير الجارديان عن قمع الصحافة في قطر، والذي تحول إلى تقرير معاكس بثته القناة باسم الجارديان نفسها.
—
لا أدافع هنا عن باقي الإعلام العربي “الساذج لا يزال” في تخبطه بين وهم الموضوعية والأجندات السياسية التي تقوده، فالحال مفضوح في غالبية الإعلام الفضائي الإخباري العريي (بما فيه الممول من باقي دول الخليج النفطية)،وهي أقل خطورة على الأقل فهي لا تحمل إلا أجندات ساذجة لترويج بروبوغاندا وطنية أكثر سذاجة ولا يصدقها أحد!!
لكن نتحدث هنا عن قناة الجزيرة كأداة خطيرة في يد تنظيم يطرح نفسه عالميا ويرى في هذا العالم ساحة “جهاد” كما ويرى في نفسه وريثا لله على كل تلك الأرض، وقد استطاع هذا التنظيم أن “يختطف” السلطة بكل مفاصلها في بقعة صغيرة من تلك الأرض التي يريد أن يرثها باسم الله، لكنها في واقع الحال بقعة ثرية بأكبر احتياطي غاز مسال، وبخبرات احترافية في التواصل الاعلامي عبر قنوات تتحدث الإنجليزية
بنفس مقدار مهارتها في العربية، وبخبراء إعلام، بدأوا علومهم بمعالم طريق سيد قطب وفتاوي ابن تيمية والشيخ القرضاوي ولم ينتهوا بعد من علوم الاتصال الحديث لإنهاء عملية الإرث الموعودة باسم المقدس!!
إن الحروب في زمن ما بعد ثورة تكنولوجيا المعلومات لم تعد ميادين قتال واشتباك بالبارود والسلاح، بل هي حروب ذكية تستخدم ثورة المعلومات نفسها ذخيرة لها لغسل الأدمغة، و تفخيخها لتحقيق فكرة الإرهاب، والجزيرة (بكل تفريخاتها) ليست بعيدة عن ذلك!