سمر نادر
من ممرٍ صغير، تخترق الذاكرة دماغي على شكل هوة زرقاء، أغوص بها بكل ما أُتيت من حماسٍ شهيّ علّني أسبر أغوارها .
تحملني الصور التي تتسارع أمامي الى يوم ٍ بعيد كانت فيه أغصان عالمي الافتراضي طرية ، كنت وقتها ألمس براعمها برعما” برعما” حتى تتفتح و تتوهج في فضاء غريب مثير.
من شدة إنبهاري بالفضاء الازرق الجديد ، كانت اللهفة تفتح نوافذها للصداقات و تترك فوانيس المفاجأة و التعارف
تعرّش على إطارها و تُزهر.
كثرٌ هم مَن دخلوا هذا العالم بعيون مفتوحة على ما لا يمكن توقعه ،
كثر ٌ انشغلوا به حتى آخر رمقٍ للدهشة.
ومنهم صديقة لي غاية في الرقّة
و آية في الجمال (كما تبدو في صورها على الفيس بوك) ربطتني بها صفحات التعارف ، كانت من وقت لآخر تقطف
زهور المحبة لحوارات مختلفة لنا
و تشدّ بها عرى الصداقة بيننا.
كان فرحي بها يزداد يوما” بعد يوم ،
الى أن سنحت لنا فرصة اللقاء بأمسية شعرية .
تملكتني غبطة لا توصف وأنا احادث نفسي ( أخيرا” سنعبر جسر الافتراض الى ضفة الواقع الجميل.)
على بوابة الزمن الذي خلع ثوبه الازرق وارتدى شمس الوضوح ، تمّ اللقاء المرتقب ، لقاء غيّر في نفسي امورا” كثيرة،
وجعلني أتعثر امام مرايا غامضة تُجسّد واقع التفاصيل والاشكال و تُخرج الحقيقة من سجنها المرّ .
ها أنا وجها” لوجه امام صديقة دون وجه ، أو إن صح التعبير ،امام غريبة لا يشبه وجهها الصورة المرسومة في خيالي ، تلك التي حفرتها “صفحة الفيس” في شبكتي البصرية.
وجه مختلف كليا” ربما جميل لكنه
ليس وجه الصديقة المنتظرة.
إجتاحتني الصدمة كمَن سُحِبَ من تحت قدميه بساط الاحلام الطائر وهو في سابع سماء وهبط بسرعة جنونية
وأرتطم بصخور الواقع.
مذهولة تلبّسني جمود لو حاولت معه تحريك اصبعا” واحدا” لتكسّرت وتهشّمت.
عبثا” حاولت التخلص من حالة الجمود وإعطاء الامر لخلاياي العصبية للتحرك ومعالجة الموقف لكن جسدي رفض الرضوخ بشكلٍ مؤلمٍ و فاضح.
كل ما بدر منّي عبارات مبهمة مرتبكة و تحركات مصطنعة وكأن كل ما بي يصرخ للأنزواء في مكان بعيد لأستوعب كمية الخداع التي سُكبت في عروقي دفعة واحدة.
اول تحرّكٍ لذهني المشوش اعتذار واهٍ وحجّة هشّة مفادها التخلص من الصديقة ذات الوجه المزيف .
قد يظن البعض اني تسرعت بحكمي وان ما أثارني اختلاف الوجه فقط …لكن حتى الكيمياء التي تجذب البشر وتقربهم من بعضهم البعض و تقارب رواحهم كانت معدومة بيننا، وكأنني كائن هلامي سقط فجأة من كوكب آخر ، و لا يربطه اي تفاعل مع سكان الارض . فالخداع والتضليل قطعا كل جسور الالفة والتقارب.
إن استعمال “الفوتوشوب” لهذا الحد و جعل الوجه على هيئةٍ مختلفة جدا” جعلني أنفر و أهرب، لبرهة تمنيت
لو اني عرفتها بوجهها الاصلي كان من الممكن للقلب أن يُبصرها بطريقةٍ
أقرب و أفضل.
تجربتي هذه ذكرني بما قرأته يوما” عن لوحة عالمية ل “ايزابيلا دي ميديشا “، السيدة التي ابهرت القرون الوسطى
بنعومتها وجمالها الى ان تمكن احد خبراء الرسم صدفةً من كشف صورة تحت الطلاء يظهر فيها الوجه الحقيقي لإيزابيلا قبيح و مليء بالتجاعيد .
اذا” منذ بدء التاريخ هناك اشخاص يعانون من صورهم ويحاولون التخلص منها او التعديل عليها بشتى الوسائل ،
الوسائل التي تطورت اليوم وفق تقنيات تجميلية حديثة ومبهرة لن استعرض تفاصيلها الآن.
عدم الرضا عن الشكل والوجه وقلة الثقة بالنفس تدفع البعض للتجميل والتغيّر لكن طمس الملامح بشكل كامل أمر يستحق التوقف عنده والتفكير ، هل التخفي خلف وجه لا يشبهنا ينفع و يفيد
للتخفي امام مرآة الروح.
ولِمَ اغلبنا مهووس بإزالة التجاعيد ؟
تجاعيدنا خطوط حفرتها مشاعرنا على وجوهنا واجسادنا ، فكيف نتخلص منها ونحاول مسحها و تبديلها؟
كيف نمسح خريطة ترسم مراحل حياتنا
و تُحدد ملامحنا و تعبّر عنا ، عن كل لحظة مضت علينا بحزنٍ وفرح وتعجب وحب.
تعابير وجوهنا قلوب خافقة متحركة فكيف يمكننا ان نُفرغ قلوبنا من النبض ؟
أحسنتِ عرضَ الفكرة، أستاذة سمر. ولا لومَ عليكِ أن تحدَّثتِ عن المظهر لا المَخبر، ما دام أن الأمر وصل إلى ذلك الحد من الاختلاف وربما التناقض بين الصورة المجمَّلة والواقع، وهو ما قد يشكّل بالفعل مفاجأةً غير سارَّة، وربَّما منفِّرة. فالمفارقة الكبيرة بين الواقع والمتخيَّل قد تسبب النفور، مثلما حصل معكِ، وهي على كل ليست بغريبة هذه الأيام، ليس فقط بسبب وجود هذا الفضاء الافتراضي الأزرق، وإنما أيضاً – بل وقبل ذلك – بسبب تغيُّر الناس ومَيْلِهم بشكل عام عمَّا هو أصيلٌ وحقيقي، إلى ما هو عابرٌ وزائف. وعلى كل، فتجميل المظهر بشكل مبالغ فيه – وربما إلى درجةِ تَناقُضِهِ مع الواقع – هو أقل فداحةً من عمل الشيء نفسه مع المَخبر!
تحياتي
ويبقى الجمال الاثمن جمال العقل والروح…