أقلام مختارة

الأردن: قراءة في المشهد السريالي

مالك العثامنة

مالك العثامنة

المشهد في العموم “عبثي وعدمي” بامتياز..

العبثية والعدمية هما نفس المصطلحان اللذان استخدمهما رئيس الحكومة الأردنية عمر الرزاز في واحدة من آخر أحاديثه مصنفا الأردنيين إلى فئات.. لكن العبثية والعدمية هي في المشهد السريالي لا في الناس كما يراها الدكتور عمر الرزاز.

ليلة الخميس، يصطدم المتظاهرون (من شتى الأصول والمنابت والمطالب) بقوات الأمن التي استحضرت، من بين أجهزتها، قوات البادية والتي كان آخر ظهور فعلي لها في عام 1986 في ما تم تسميته حينها بأحداث جامعة اليرموك.

المطالب، لو تم تحقيقها جميعا، فهي لن تحل أزمة الأردن الاقتصادية! ورئيس الوزراء “بالغ التهذيب”، هو نفسه وزير الدفاع بالمناسبة وأتساءل مثل الجميع إن كان يملك قرار تحريك عسكري واحد من الأمن أو الجيش بأمر مباشر منه! والقرار السياسي والاقتصادي كله، بمجموعه، خاضع لولاية هي عمليا خارج نطاق مكتبه المشرف على الدوار الرابع والذي يحتشد فيه المتظاهرون الغاضبون من كل شيء.

حكومة “بالغ التهذيب” وعبر ناطقتها الرسمية، وزيرة الإعلام فيها، وهي صحافية ورئيسة تحرير وكاتبة مقالات رأي، تصرح بتصريحات تجعلني أتساءل إن كانت هي فعلا من يكتب مقالاتها النارية حين كانت تهاجم الحكومات والسلطة وتعبر عن نبض الشارع حينها؟

اتهمت الوزيرة “معارضين في الخارج” بالتحريض على الأحداث! وهذا اتهام يعني أن الأردنيين الموجودين في الشارع هم دون سن التأهيل العقلي وتحت سن الرشد السياسي ليتم تحريكهم وتوجيه غضبهم من قبل مجرد مؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى أن قولبة “معارضة خارجية” كتهمة معلبة قد فقدت صلاحيتها منذ مرحلة ما بعد الربيع العربي.

لكن السريالية تستمر…

في نهار الجمعة التالي لأحداث الخميس، وبينما المواقع (تواصل اجتماعي أم إعلامية أم دكاكين صحافية) تضج بالتعليقات الغاضبة على الأحداث، يظهر الملك الأردني فجأة في مسجد “الملك المؤسس” في وسط عاصمته الغاضبة وبالقرب تماما من مبنى البرلمان “الإمام الغائب في الحوزة الأردنية”، ضمن مشهد تم تصويره وإخراجه بكاميرات الهواتف الجوالة، ليكون “رأس الدولة الأردنية” منفردا بلا مظاهر حرس ولا مرافقة أمنية (فعليا، كان الحرس وقائده موجودين في كل المشهد بالزي المدني)، والملك هو صاحب الولاية الحقيقية، وقائد الجيش الأعلى.. وكذلك الأمن كله وبصلاحيات دستورية تمت إضافتها قبل سنوات، لكنه أيضا وحسب الدستور نفسه “مصون عن كل تبعة ومسؤولية”!

أعطت الصورة انطباعا أن الملك غاضب، وهو ما قد يكون حقيقيا؛ فالملك يرى أن كل حكوماته التي عينها لم تلق رضا شعبيا، إلا حكومة واحدة أقالها هو نفسه بينما كان رئيسها “عون الخصاونة” خارج الأردن، ولأنه أقالها حظيت بالرضى الشعبي مع أنها فعليا لم تقدم شيئا على الأرض.

والصورة أيضا حقيقية في فحواها بأن الملك لا يزال محاطا بشعبية تحميه.. حتى الآن.

وحسب متابعة تصاعد الأحداث بتسلسلها المنطقي، يبدو أن الملك يتجه نحو ما يشبه الأحكام العرفية؛ ربما هي محاولته الأخيرة للملمة السلطة، فالملك واسع الصلاحيات دستوريا، وهو رأس الدولة والسلطات، لكن مساحات النفوذ لمراكز القوى أيضا اتسعت، وصارت تلك المراكز المتعددة حول الملك، تتصارع على مساحات نفوذ أكبر.

♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦

في خضم كل ذلك، يبرز رئيس وزراء أسبق (وقريب شخصيا من الملك) وهو سمير الرفاعي لينشط على موقع تويتر تحديدا، عبر تغريدات مفعمة بالبلاغة والجزالة اللغوية التي لم تعرف عنه شخصيا، منتقدا الوضع السائد!

الرفاعي هو ابن رئيس وزراء، وحفيد رئيس وزراء، وانتقاداته للحكومات التي تلت حكومته كانت ملموسة بلطف، لكنها مع حكومة الرزاز، بدت كأنها تضع العصي في دواليب الدكتور بالغ التهذيب فاقد الولاية. يتحدث الرفاعي في تغريدته الأخيرة عن تلك الولاية بلغة تحدي يضع فيها نفسه أمام المشهد كمحاولة لإعادة تقديم أوراق اعتماده مرشحا للمنصب محاولا بجهد يائس أن يحقق شعبية مستحيلة.

انتشرت صورة للرفاعي مع شاب ظهر في لقاء بين الرئيس الرزاز ومن قالوا إنهم يمثلون الحراك؛ وانتشر فيديو للشاب وهو يخاطب الرزاز بقسوة وباسمه بدون أي ألقاب، متحدثا كلاما كثيرا وغاضبا، لكن سرعان ما بددت وسائل التواصل الاجتماعي ملامح الشخصية الطارئة في اليوم التالي، ليتضح أن الشاب مضطرب، وحراك الرابع لا يراه ممثلا له.

وأيضا، ما يميز الحراك الأخير عن سابقه، ربما يكمن في أن قوى كثيرة تتدخل فيه هذه المرة، تحاول “الاندساس” بين الناس الحقيقية الغاضبة، وهناك اتهامات لرجل واحد دوما يعيش في الإمارات: محمد دحلان. والذي حسب ما يراه كثير من محللين في الداخل الأردني يحاول نقل قواعد الاشتباك الفلسطيني ـ الفلسطيني إلى الميدان الأردني تحديدا، ولحسابات إقليمية يديرها الرجل بعقلية أمنية صرفة.

شخصيا، لا أرى أن دحلان بعيد عن العبث بالمشهد الأردني، وهو من تربطه علاقات متعددة المستويات لدى مراكز القوى المحيطة بالملك، والمحاصرة للدولة.

في المقابل، يظهر رجل إشكالي مثل الدكتور مصطفى الحمارنة، داعما بقوة للرئيس الرزاز ويرى فيه “رغم أنه فاقد للولاية” حجر أساس الدولة المدنية في الأردن، ومضفيا على نفسه في أحاديثه العامة والخاصة هالة الوصي على الرئيس نفسه، والدكتور الحمارنة ضيف دائم على عزمي بشارة، المقيم في الدوحة وصاحب مشروع غريب من نوعه في دمج اليسار التقدمي بالإسلام السياسي!

وشخصيا، أرى أن تيار الإسلام السياسي بعيد عن المشهد حاليا، لكن لا أرى الدوحة بعيدة عن الاستقطابات ضمن رؤيتها الإقليمية للمنطقة.

♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦

في محصلة المشاهد التي تتابع لا تزال..

إن الشارع الأردني، غاضب وفيه حالة غليان غير مسبوقة، والحراك هذه المرة يعكس رغبة حقيقية في تغيير النهج كله، وهو النهج الذي فرد تلك المساحات الشاسعة لقوى ومرجعيات في الدولة لتتصارع عليها وتوسع نفوذها المصلحي فيها، ويبدو الملك كأنه الواقف الوحيد دوما في لعبة الكراسي الموسيقية التي تزيد فيها الكراسي بدل أن تنقص.

وهو ما يضعني أمام إحالة نصية استذكرتها وأسمح لنفسي باقتباسها في نهاية هذا المقال.

في عام 2013، قرأت بتمهل واستمتاع كتاب السياسي والكاتب الايراني الراحل وقتها حديثا، إحسان نراغي، وعنوانه “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة”.

الكتاب مهم جدا، من كاتب عرف سجون الشاه وعرف الشاه نفسه والتقاه لساعات طويلة منفردا.. ثم عرف الثورة الخمينية وعرف سجونها الثورية كثيرا.

وهو من الكتب التي احتفظ بملاحظات واقتباسات أدونها مباشرة لأهميتها، ومن الكتاب ذاته أعيد نشر اقتباس مهم، أراه ضرورة لكل ما سبق من حديث، مع مراعاة عدم الإسقاط للتباين الكبير بين الحالتين، حيث يقول نراغي وهو يخاطب الشاه نفسه في خلوات خاصة بينهما:

“(…) وهذا راجع خصوصا إلى النظام. النظام الهرمي حيث رئيس الوزراء لا يهتم إلا بما يأتيه من فوق. لا أحد يشعر أنه مسؤول على الصعيد السياسي لأن كل القرارات المهمة تصدر عنك وحدك (أي الشاه). بما أنك انفردت بتحديد الأهداف، فإن النخبة اعتبرت أن دورها ينحصر بتزويدك بالمعلومات التي تتفق مع خطك السياسي. هذه النخبة استغلت ذكاءها وعلمها لتتبعك، أي، بدافع من قوة الأشياء ذاتها لتمنع عنك الرؤيا. أردت أن تضع تكنوقراطيين في كل مكان، والتكنوقراطي آلة لا تجيب إلا على الأسئلة التي تطرح عليها، وهي لا تطرح الأسئلة من جهتها”.

انتهى الاقتباس.. وكذلك انتهى بعض ما نريد قوله.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق