السلايدر الرئيسيشرق أوسط

الساحة الكوسوفيّة: بؤرةُ توتُّرٍ بلقانيّةٌ دائمةٌ تعود إلى الواجهة من جديد!

جمال دملج

ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ لم تكد تمرُّ أيّامٌ قليلة فقط على إعلان البرلمان الكوسوفيّ عن موافقته نهار الجمعة الفائت على تشكيلِ جيشٍ وطنيٍّ قوامه خمسة آلافِ جنديٍّ في “جمهوريّة كوسوفو” ذات الأغلبيّة الألبانيّة التي كانت قد قرَّرت الانفصال عن صربيا من جانبٍ احدٍ قبل قرابة العشرةِ أعوامٍ من الزمان، حتّى بدأت تتشكَّل في الأفق ملامح أزمةٍ سياسيّةٍ وعسكريّةٍ جديدةٍ من شأنها أن تُعيد هذه المنطقة البلقانيّة المعروفة بانقساماتها الإثنيّة والعرقيّة المتوارَثة أبًا عن جدٍّ إلى سابق عهدها كأرضٍ خصبةٍ للتجاذباتِ وشدِّ الحبال في صراعات الدول الكبرى المتنافِسة على تحقيق مصالحها وبسط نفوذها في أماكنَ مختلفةٍ من العالم، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأميركيّة وروسيا الاتّحاديّة، ولا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ خطوة الانفصال بحدِّ ذاتها يوم السابع عشر من شهر شباط (فبراير) عام 2008 لم يكن ليُقدَّر لها أن تكتمِل في الأصل لولا الدعم السياسيّ والعسكريّ والمعنويّ الذي حظي به الألبان في أعقاب قيام مقاتلات حلف شماليّ الأطلسيّ بشنِّ عشرةِ آلافٍ وأربعمئةٍ وأربعٍ وثمانينَ غارةً جوّيّةً على يوغسلافيا (السابقة) بحجّة حمايتهم ممّا أُشيع عن عمليّاتِ اضطهادٍ وتنكيلٍ وتطهيرٍ عرقيٍّ يتعرَّضون لها على أيدي أبناء القوميّة الصربيّة عام 1999.

“ناتو تيروريستا”

وعلى رغم أنّ الشكوك كانت قد حامَت منذ البداية حول نزاهة الشعارات التي رفعَها الأطلسيّون وقتذاك لتبرير تلك الحملة العسكريّة الكبرى التي ما زالت تُسمّى في القواميس الروسيّة والصربيّة لغاية يومنا الراهن بـ “العدوان الأميركيّ – الأطلسيّ على يوغسلافيا”، وخصوصًا بعدما اتّضَح أنّها تستهدف في المقام الأوّل الإطاحة بنظام الرئيس (الراحل) سلوبودان ميلوسوفيتش قبْل أيِّ اعتبارٍ آخَر بسبب رفضه الانصياع لإبرة بوصلة عرّاب ما عُرِف في حينه بـ “مفاوضات رامبوييه” الخاصّة بتقاسُم السيادة بين الألبان والصرب في إقليم كوسوفو، أيْ مبعوث الرئيس بيل كلينتون إلى البلقان ريتشارد هولبروك، فإنّ الناس العاديّين من أبناء القوميّة الألبانيّة في الإقليم المنكوب سرعان ما وقعوا في فخّ تلك الشعارات، ثمّ راحوا يردِّدونها في أحاديثهم اليوميّة، من دون الانتباه إلى واقع الحال المتمثِّل في أنّ أحد أبرز أسباب نزوحهم عن ديارهم بين شهريْ آذار (مارس) وحزيران (يونيو) عام 1999 يعود في الأساس إلى قيام المقاتلات الأطلسيّة باستهدافهم في مدنهم وقراهم، بما فيها العاصمة بريشتينا، وذلك وفقًا لما كانوا يقدِّمونه بأنفسهم من شهاداتٍ لدى وصولهم إلى الدول المجاروِة، على غرارِ شهادةِ سيّدةٍ منهَكةٍ قُدِّر لي أن أُسجِّل لها بحّة صوتها المتعَب لدى عبورها مع عشرات الآلاف من النازحين إلى أحد الأودية النائية بين منطقتيْ “بلاتسي” الكوسوفيّة و”جنرال يانكوفيتش” المقدونيّة عندما قالت لي أمام عدسة الكاميرا إنّ سبب نزوحها يعود إلى تعرُّض الإقليم بأكمله لقصفٍ أطلسيٍّ وحشيٍّ لم يفرِّق ما بين العسكريّين وما بين المدنيّين، مستخدِمةً في حديثها القصير عبارةً ظلَّت تردِّدها مرارًا على مسامع الجميع ممّن كانوا يتجمَّعون حولنا وهي: “ناتو تيروريستا”.

الترهُّل الروسيّ

وإذا كانت الدعاية الإعلاميّة الغربيّة المركَّزة قد ساهمَت إلى حدٍّ كبيرٍ في طمْس دلالات هذه العبارة في غمرة سيْل التصريحات التجميليّة التي كانت تصدُر تِباعًا عن كلٍّ من المتحدِّث الرسميّ باسم البنتاغون كينيث بايكون ونظيره الأطلسيّ جيمي شيا، ناهيك عن تصريحات “الرجال الكبار” من أمثال الرئيس الأميركيّ بيل كلينتون ورئيس الوزراء البريطانيّ طوني بلير والأمين العامّ لحلف الناتو خافيير سولانا، فإنّ حصيلة كلّ هذه الـ “بروباغاندا” لم تُحقِّق في نهاية المطاف أيَّ نجاحٍ يُذكَر خارج نطاق التهويل والتلفيق وقلب الحقائق رأسًا على عقب، وبالتالي في شطْب الإخفاقات الأميركيّة – الأطلسيّة من الذاكرة الجمعيّة لمن قُدِّر لهم أن يُتابِعوا عن قربٍ كافّة إرهاصات ذلك الحدث اليوغسلافيّ الكبير، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة أنّه لولا ترهُّل الإدارة الروسيّة في عهد الرئيس (الراحل) بوريس يلتسن ودورها المشبوه لصالح الأميركيّين على حساب اليوغسلافيّين في تمرير صفقة “اتّفاق كومانوفو” الذي مهَّد لدخول قوّات “كي فور” إلى إقليم كوسوفو في شهر حزيران (يونيو) عام 1999 لما كانت الأمور قد آلت إلى ما آلت إليه من نتائجَ محبِطةٍ في أوساط الكوسوفيّين من أبناء القوميّة الصربيّة على مدى السنوات الطويلة الماضية، ولكانت الغارات الجوّيّة التي شُنَّت طيلة سبعةٍ وسبعينَ يومًا من عُمر الحملة العسكريّة الأطلسيّة قد مُنيَت حتمًا بفشلٍ ذريعٍ في أحسن الظروف والأحوال.

التعايُش المستحيل

ولعلّ مجرَّدَ إجراءِ مراجعةٍ سريعةٍ لتسلسل الأحداث منذ اللحظة الأولى التي أُطلِق فيها أوّلُ صاروخٍ على بلغراد في ذلك اليوم الواقع في الرابع والعشرين من آخِرِ آذارٍ في القرن العشرين لا بدَّ من أن تكون كافيةً لكي تؤدّي إلى استنتاجٍ مفاده أنّ الأطلسيّين وضعوا نُصب أعينهم هدف تدمير البنية التحتيّة اليوغسلافيّة كسبيلٍ من شأنه أن يُفضي إلى تحقيق الهدف الذي شكَّل البنية التحتيّة لأهدافهم، بدءًا من الإطاحة بنظام الرئيس ميلوسوفيتش وانتهاءً بفرض الشروط الغربيّة على الصرب في كوسوفو، علمًا أنّ الأوضاع في الإقليم كانت قد بدأت بالتأزُّم بشكلٍ قياسيٍّ قبل ذلك التاريخ بعامٍ كاملٍ جرّاء قيام القنّاصة من مقاتلي “جيش تحرير كوسوفو” المدعومين من وكالة المخابرات المركزيّة (سي آي إي) بإطلاق رصاص بنادقهم على القوّات اليوغسلافيّة المتمركزة هناك في سياقِ تحرُّكٍ استفزازيٍّ أدّى إلى تأجيج الصراع الإثنيّ بين أبناء القوميّتين الألبانيّة والصربيّة، ومهَّد لدخول عناصرَ من ميليشيات “النمور الصربيّة” بزعامة جيلكو راجناتوفيتش (أركان) على الخطّ، بحيث أصبح ما تردَّد يومًا عن أنّه تعايشٌ مشترَكٌ بين الطرفين من رابع المستحيلات.

شهادة المفتي

ومع الأخذ في الاعتبار أنّ راجناتوفيتش المطلوب أصلًا للمحكمة الدوليّة في لاهاي بتُهمٍ تتعلَّق بارتكاب جرائمَ ضدَّ الإنسانيّة في حرب البوسنة (1992 – 1995) كان قد أوضح لي في مقابلةٍ خاصّةٍ أجريتها معه في بلغراد قبل اغتياله بقرابة الثلاثةِ أشهرٍ بينما كانت الغارات الأميركيّة – الأطلسيّة على أشدّها عام 1999 أنّ مشاركة ميليشياته في استهداف عناصِر “جيش تحرير كوسوفو” لم يحمِل أيَّ بُعدٍ طائفيٍّ بقدْر ما كان يرمي إلى محارَبة المتطرِّفين الألبان الذين يسعون إلى الانفصال عن بقيّة الجسد اليوغسلافيّ، وهو ما أكَّده لي خلال الفترة نفسها مفتي بلغراد الشيخ حمدي يوسف سباهيتش أثناء لقائي معه في “مسجد البُراق” عندما قال إنّه يعيش في صربيا منذ ثلاثةٍ وثلاثينَ عامًا، ويحمِل عمامته ويُعلِّم أولاده، مقسِمًا بالله ثلاثَ مرَّاتٍ بأنّ “هذا المسجد الذي يقع في وسط العاصمة لم يُقفَل يومًا واحدًا، سواءٌ خلال حرب البوسنة أم خلال حرب كوسوفو”، وبأنّ “كلّ ما تسمعونه في وسائل الإعلام الغربيّة عن عمليّاتِ إبادةٍ جماعيّةٍ وتطهيرٍ عرقيٍّ يتعرَّض لها المسلمون على أيدي الصرب ليس أكثر أو أقلّ من محاولةٍ لتبرير العدوان الأجنبيّ على يوغسلافيا”، فإنّ ما يعزِّز صدقيّة هذيْن الموقفيْن، بالإضافة إلى مواقفَ مماثِلةٍ أخرى، لا بدَّ من أن يتبلور بشكلٍ جليٍّ إذا ما وضعْنا في الحسبان أنّ مواجهات عام 1998 بين مقاتلي “جيش تحرير كوسوفو” وميليشات “النمور الصربيّة” لم تُسجِّل في خضمِّ تداعياتها أيَّ حركةِ نزوحٍ للكوسوفيّين عن ديارهم، وأنّ أعداد النازحين خلال الأيّام الأربعة الأولى من عُمر الحملة العسكريّة الأطلسيّة عام 1999 لم تكن تتجاوز المئةَ نازحٍ في اليوم الواحد نظرًا لأنّ دائرة الاستهداف كانت محصورةً في مدنٍ صربيّةٍ بحتةٍ مثل بلغراد ونوفيساد وفوليفو وبانشافو، وأنّ تلك الأعداد لم ترتفِع إلى عشراتِ الآلافِ يوميًّا بشكلٍ أشبه ما يكون إلى النزيف البشريّ إلّا بعدما وسَّع الأطلسيّون دائرة الاستهداف لتشتمل على مختلف المدن القرى الكوسوفيّة، الأمر الذي يفسِّر المغزى والمعنى في كلام السيّدة الألبانيّة الآنفة الذكر التي قالت لي أمام عدسة الكاميرا: “ناتو تيروريستا”.

التاريخ الفضفاض

هذا الكلام، وإنْ كان لا ينطوي على أيِّ نيّةٍ لذرِّ الرماد في العيون عن طريق التذكير بماضٍ أليمٍ قُدِّر لي أن أكون شاهدَ عيانٍ عليه لمجرَّد التذكير وحسب، ولكنّ الغرض من وراء استحضاره هنا يتمثَّل في وجوب الإضاءة على أنّ التصريحات الأخيرة للأمين العامّ الحاليّ لحلف شماليّ الأطلسيّ ينس ستولتنبرغ التي استنكر فيها قرار برلمان كوسوفو بخصوص تشكيل الجيش الوطنيّ الجديد في موقفٍ لافتٍ جعله يبدو كما وأنّه “العطّار الذي يريد إصلاح ما أفسده الدهر”، معطوفةً على مواقف مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتّحدة فاسيلي نيبينزيا اليوم الثلاثاء التي اعتبَر فيها أنّ القرار الجديد يتعارض مع قرار مجلس الأمن رقم 1244 بخصوص توكيل مهمّة حفظ الأمن للقوّات متعدِّدة الجنسيّات في مؤشِّرٍ على اعتزام بلاده عدم التهاون مجدَّدًا مع تطوُّرات الأوضاع على الساحة الكوسوفيّة، إنّما تدلُّ في مجملها إلى أنّ الطرفين الأطلسيّ والروسيّ ربّما تعلَّما من تجارب الماضي ما يكفي من دروسٍ وعِبَرٍ لكي يُعيدا التاريخ إلى مساره الصحيح، باستثناء الطرف الأميركيّ الذي أشاد بخطوة البرلمانيّين الكوسوفيّين ووصفها بأنّها خطوةٌ تاريخيّةٌ… وحسبي أنّ مصطلح التاريخ هنا فضفاضٌ كثيرًا على من لم يُقدَّر لهم أن يعرفوا قيمته الحقيقيّة إلّا من خلال تاريخهم في إشعال الأزمات وصبِّ الزيت على نارها… والخير دائمًا من وراء القصد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق