كوليت بهنا
في الثامن عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري احتفل عشاق اللغة العربية باليوم العالمي للغتهم، وهو اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3190 لعام 1973، وأقرت بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، بعد النجاح القدير للجهود الدبلوماسية العربية التي بذلت منذ خمسينيات القرن الماضي لإصدار هذا القرار بأهميته المعنوية لكل عربي أو ناطق بالعربية، مع الإشارة إلى الجهود الخاصة التي بذلتها كل من المملكة المغربية والجمهورية اللبنانية المصنفتين عضوين في المنظمة الدولية للفرنكوفونية، ما يؤكد أن الحرص على الصبغة العروبية للبلدين لا تؤثر على انفتاحهما على باقي لغات العالم.
اللغة العربية غنية عن التعريف لقارئها العربي ومتذوقيها من غير العرب الذين فتنوا بها وبإبهار شعرها وفنون خطوطها، ولا يتسع المجال هنا للاستفاضة بجمالها وإعجازها وبلاغتها واحتوائها على خاصيات لغوية متميزة مثل “الترادف والأضداد والمجاز والطباق والجناس والسجع ومقدرتها على التعريب”، وغيرها.
والعربية هي اللغة الوحيدة في العالم التي تحتوي على حرف “الضاد”، ومن هنا جاءت تسميتها بلغة الضاد، واعتبر العرب من أفصح من لفظ هذا الحرف الصعب، كما تعتبر العربية من أقدم اللغات السامية وأكثر لغات المجموعة السامية متحدثين وإحدى أكثر اللغات انتشارا في العالم.
تكتسب اللغة العربية أهميتها الخاصة لدى المسلمين لأنها لغة القرآن الكريم، ولا تتم الصلاة في الإسلام إلا بإتقان بعض من كلماتها. وما زالت اللغة العربية لغة شعائرية رئيسية لدى عدد من الكنائس المسيحية في الدول العربية جنبا إلى جنب مع لغة الطوائف الخاصة بهم.
وباللغة العربية كتبت الكثير من أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى، منها مؤلفات ثمينة في النحو والفلسفة والشعر وتفسير التوراة وكان لها بالغ الأثر في اللغة والدين والأدب اليهودي.
برزت الاحتفالية بيوم اللغة العربية هذا العام بشكل أكبر وأكثر تكثيفا على وسائل التواصل الاجتماعي، ولوحظ أن كثيرين من الذين احتفلوا هم كتّاب ومثقفون سوريون وعرب يعيش معظمهم خارج بلاده قسريا، بحيث بدت مشاركتهم في الاحتفالية شكلا من أشكال التعبير عن الحنين وقهر الغربة.
وقد عبرت الروائية السورية روزا ياسين حسن المقيمة في ألمانيا عن الأمر أوضح تعبير عبر حسابها على “فيسبوك” بقولها: “اللغة ببساطة هي القطعة الوحيدة من الوطن التي يمكن أن تصحبنا في شتاتنا”.
هؤلاء يجدون أنفسهم اليوم، بسبب واقع اللجوء عند السوريين بشكل خاص، قلقين من ذوبان لغتهم مع اضطرارهم لتعلم لغات دول اللجوء، ويتجلى هذا القلق في ما يخص مستقبل اللغة العربية لدى أطفالهم الذين سيستمرون، شأن كل الأطفال المولودين في الخارج، بالتعامل مع اللغة الأم للمحادثة داخل المنزل أو ضمن تجمعاتهم العرقية لا أكثر.
مع ملاحظة أن بعض المثقفين السوريين من أعراق أخرى سخروا من المناسبة أو تجاهلوها كليا أو لم يتفاعلوا معها في منشورات أصدقائهم، بسبب الحساسية الطارئة حول العروبة واللغة العربية والدعوات للنزعات الاستقلالية والإحساس بالغبن تجاه لغاتهم الأم، رغم أن أهم وأجمل من كتب باللغة العربية في مجالات الأدب والشعر والفكر والفنون والسياسة والتاريخ وغيره كانوا ينتمون إلى معظم هذه الأعراق، وبخاصة من الشعب الكردي أو من أصول كردية مثل العلاّمة السوري محمد كرد علي أحد أهم مؤسسي مجمع اللغة العربية في دمشق، والشاعر الكبير أحمد شوقي المولود لأب كردي مصري، والشاعر والروائي السوري سليم بركات، والشاعر العراقي ورائد الحداثة بلند الحيدري، وأول من واجه الاحتلال الفرنسي لسوريا ودافع عن عروبتها وزير الدفاع يوسف العظمة ذي الأصول الكردية.
في تقييم وضع اللغة العربية اليوم، لا شك أن هذه اللغة البديعة ليست بصحة جيدة، إن من حيث تراجع المهتمين بعلومها وآدابها واقتصار التعامل معها إلا لأغراض التدريس أو الدراسات والأبحاث الأكاديمية، أو من حيث عدم التدقيق والحرص على سلامة القواعد اللغوية في العديد من وسائل الإعلام، المرئي منه بشكل خاص، والاتجاه أكثر فأكثر نحو الإغراق في اللهجات العامية التي تناسب بعض البرامج وليس جميعها.
بدورها وسائل التواصل الاجتماعي فرضت شروطها اللغوية البسيطة للتخاطب ما سيترك كبير الأثر في تشويه الذائقة اللغوية بعد سنوات قريبة، باستثناء عالمي الرواية والشعر اللذين مازال أغلب كتّابهما يحرصون على اللغة الفصحى السليمة حتى وإن مالت معظم النتاجات الأدبية الأخيرة نحو تبسيط العربية من تقعرها بما يتلاءم ومتغيرات العصر كافة.
يعتقد البعض أن العربية الفصحى فقدت جاذبيتها، الصوتية بشكل خاص، ما يذكر بما راهن عليه قبل أكثر من خمسين عاما الملحن الكبير رياض السنباطي والسيدة أم كلثوم حول تقبل الجمهور لأغنية باللغة الفصحى، وكان أن خرجت قصيدة الأطلال التي كتب كلماتها الشاعر والطبيب المصري إبراهيم ناجي كواحدة من أجمل وأكثر الإبداعات الفنية المسموعة حتى اليوم.
تحتاج اللغة العربية، مثل أية لغة في العالم، إلى غذاء عقلي مستمر لا يستمد إلا من القراءة المستمرة لأفضل وأجمل ما كتب في اللغة العربية، وبخاصة القرآن الكريم وإعجازه اللغوي، والشعر العمودي، اللذين يقوي الاستمرار في قراءتهما الذائقة والمناعة اللغوية، ويبهج الروح ويمرن ذهن المرء دوما على اليقظة الذهنية والفطنة اللغوية القادرة على أن تميز أية مفردات تختار كحامل حضاري نبيل لصاحبها.
كم هو محظوظ من يدرك أهمية اللغة العربية ويتعلق بهواها، أيا كانت جنسيته أو انتماؤه العرقي أو الديني، يكفي أن لكلمة حب فيها ما يفوق الثلاثين مرادفا لغويا، بينها التتيم والجوى والشغف والصبابة والكلف؛ هي باختصار كما وصفها الشاعر اللبناني حليم داموس:
لغة إذا وقعت على أسماعنا كانت لنا بردا على الأكباد