حسن منيمنة
رالف پيترز معلق سياسي وعسكري أميركي، من مواليد عام 1952، انخرط في الجيش بعد دراسته الجامعية عام 1976، وخدم في ألمانيا، متدرجا في الرتب والمهام، بما في ذلك التحليل الاستخباراتي، متخصصا بالاتحاد السوڤياتي، ليخرج من الخدمة عام 1998 برتبة مقدم، برصيد مشرّف، وإن غير متميّز.
استفاد پيترز من تجربته العسكرية ليعمد إلى التأليف، فنشر بعض الكتب التاريخية والسياسية، ذات الطابع التبسيطي بل التسطيحي، وذات المزاج المحافظ العام. كما ألّف بعض القصص والروايات الحربية والجاسوسية والتي لاقت بعض الرواج.
وإذا كان لپيترز قدرا متواضعا من الشهرة في الولايات المتحدة، فهي لسلاقة لسانه وإهانته لشخصيات سياسية أبرز منه بأشواط (مثل وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، وخاصة الرئيس السابق باراك أوباما)، على شاشة القناة الإخبارية “فوكس”، ثم تخليه أخيرا عن عقده مع “فوكس” متهما إياها بخيانة المبادئ المحافظة في تبجيلها للرئيس دونالد ترامب ومسايرتها لسياساته البعيدة عمّا دعا إليه المحافظين تاريخيا.
قد لا يكون اسم پيترز من الأسماء المعروفة والمتداولة في المحيط العربي، والواقع أنه لا مبرر لأن يكون كذلك. غير أنه ثمة نتاج عابر من هذا الرجل دخل إلى صميم الخطاب السياسي العربي. فپيترز، والذي يتحدث عن العلاقات الإسلامية الغربية بلغة المحارب والمحازب والذي يقرأ التاريخ على أنه صولات وثارات، كتب عام 2006 مقالا في “مجلة القوات المسلحة” وهي منبر حر للمنتسبين والمتقاعدين في وزارة الدفاع، بعنوان “إخوة الدم: شكل أفضل للشرق الأوسط”.
انطلق پيترز في مقاله من مراجعته لحدود الدول في المنطقة، و”اكتشافه” الفذّ بأنها لا تتطابق مع الأعراق والديانات، وقناعته الاعتباطية بأن هذا التطابق هو شرط الاستقرار، ليقدم تصوّره لمستقبل المنطقة من خلال رسم حدود جديدة للدول فيها، مقسمّا بعضها باترا أجزاء منها، وجامعا نواحي متفرقة لإقامة دول قومية ودينية تنسجم مع ما استجمعه من رؤية للتاريخ.
واقع الأمر أنه حين كتب پيترز مقاله عام 2006، كان العديد من أقرانه من الكتاب والمحللين وبعض السياسيين في الولايات المتحدة، على حداثة اطلاعهم على أحوال العراق نتيجة الحرب، يمعنون في التنظير حول انعدام العمق التاريخي لبلاد الرافدين كوطن موحد، ويتحدثون عن جدوى تقسيمها إلى ثلاث دول، سنية، وشيعية، وكردية، انطلاقا من تقييم اختزالي أكثر صلاحا للحاجة الإعلامية إلى تقديم الحلول الآنية القصيرة منه إلى الموضوعية أو الاعتبار المتروي.
پيترز صعّد وحسب من هذا التنظير غير المقيّد ليشمل به المنطقة الممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى آسيا الوسطى، وإن صاحب هذا التوسيع في النطاق المزيد من التعسف في المعالجة.
وإذ لم يخرج پيترز عن الشائع عندها في الثقافة السياسية الأميركية حين أراد للأكراد وطنا جامعا، فيبدو أن متابعته للأحوال السياسية في المنطقة قد أثارت نقمته على كل من السعودية وإيران، فاجتهد بتقطيع أوصالهما، وكذلك فعل مع تركيا وباكستان، والتي كانت ولا تزال الشكوى بشأن التحالف معهما تكثر في الأوساط المحافظة.
الخلاصة في مقاله هي أن الحلّ الأفضل للشرق الأوسط هو في تفتيت الدول الكبيرة وضم أجزاء منها إلى الدول الصغيرة. وصاحب المقال خارطتين (“قبل” و”بعد”) أعدّهما پيترز لتوضيح أفكاره.
ملاحظتان بشأن خارطة پيترز المستقبلية: الأولى أن الترتيب الجديد الذي يصوّره الرجل لا يفي بالشروط التي وضعها لمشروعه. فلبنان، والذي منحه سخاء المؤلف الساحل السوري، يزداد تعددية ولا يقترب من التجانس المقرر، وكذلك اليمن وأفغانستان. كل ما تنتجه الخارطة الجديدة هنا هي أنها تعالج الاختلافات التي يدركها المؤلف لتنشئ دولا وهمية لا تقل تعددية واختلافا داخليا عن تلك التي قرّر إلغاءها.
أما الملاحظة الثانية، فهي أن پيترز قلّص مساحة إسرائيل عبر إعادتها إلى حدود العام 1976، إذ هي هنا، في سياق تفنّنه السياسي لا تعنيه، كما أنه لم يتعرض لبعض الحلفاء المعتبرين لبلاده، وفق نظرته، بسكين الجراحة الذي شرّح بها غيرها. لا أهمية موضوعية ولا دلالة على إهماله لإسرائيل، بل الحقيقة المجردة هي أنه لا أهمية ولا دلالة لخارطته كليا. غير أن التلقي العربي لهذه الخارطة كان مغايرا.
فقد وجدت هذه الخارطة المرتجلة والاعتباطية مقامات عليا في أكثر من محفل فكري وسياسي وإعلامي عربي، وجرى التعريف عنها على أنها “خارطة البنتاغون”، أو مشروع “سايكس ـ بيكو الجديد”، بل وانطلاقا من كلام صادر عن المؤرخ برنارد لويس، والذي عبّر عن وجهة نظر تتكرر في أوساط عدة أن الأكراد قد ظلموا حين حرموا من الدولة بعد الحرب العالمية الأولى. أصبحت هذه الخارطة منسوبة إلى برنارد لويس نفسه، إذ يضيف إليها بعض الشهرة، حيث أنه مؤرخ معروف في الأوساط العربية، كما يضاعف من الريبة بشأنها، انطلاقا من خلفيته اليهودية، وهي التهمة التلقائية في العديد من الأوساط العربية.
وكمعظم قرائن “المؤامرة” في الخطاب السياسي العربي، أهمية هذه الخارطة هي في الإشارة العابرة إليها، لا في تفاصيلها، والمسعى إلى تفنيدها يلقى الاعتراض الفوري على أنه انغماس متعمد في التفاصيل للابتعاد عن الحقيقة الكلية المفترضة والمقررة حول أنه بالفعل ثمة مسعى خارجي، غربي، ومن الولايات المتحدة تحديدا، لاستنزاف المنطقة والاستيلاء على خيراتها. فالتنبيه إلى علة ما في هذه الخارطة مثلا يمسي محاولة للتعمية على النوايا الخبيثة التي تكشفها للملأ.
يجوز التسليم لهذا الاعتراض بأنه في الولايات المتحدة وغيرها بالفعل العديد ممن لا يضمر الخير لدول المنطقة، سواء كان ذلك انطلاقا من قراءة تفترض صراع الحضارات كأساس للتاريخ، وتضع الغرب والشرق الأوسط في صفين حضاريين مختلفين، أو من تقييم رسى عند تقرير تضارب المصالح. ويبدو من مراجعة نتاج پيترز أنه ليس بعيدا عن هذا الصف.
كما يمكن التسليم بأنه في مرحلة ما، كانت فكرة تقسيم العراق موضع بحث، بما في ذلك في الأوساط التي تريد الخير لأهله. وأن يشكل التقسيم إعادة رسم لحدود المنطقة هو رأي تقدم به أكثر من معلّق ومحلّل، دون أن ترتقي هذه الأقوال إلى مستوى الطرح العلمي المتماسك، أو طبعا إلى مستوى السياسة الفاعلة، رغم الإصرار البياني من جانب بعض المعادين للولايات المتحدة التأكيد على خلاف ذلك.
غير أن هذه الخارطة ليست متوافقة مع الدور المناط بها من جانب من يلجأ إليها كدليل على المؤامرة. أين إسرائيل العظمى، والتي يعتبر معظم منظّري المؤامرة أنها الغاية المنشودة؟ خارطة پيترز تلحظ أردن كبيرا ولبنان كبيرا، أما إسرائيل فإلى التقليص. ثم أن پيترز رسم خارطته من وحي أحداث التي عايشها إلى العام 2006. فلا “دولة إسلامية” تجمع بين العراق وسوريا، رغم الزعم المتكرر في أوساط “المؤامرة” بإن هذه الدولة كانت أمرا مرسوما. بل بعض مضي أكثر من عقد على هذه الخارطة، لا يبدو أنها استبقت أي من الوقائع التي شهدتها المنطقة.
ولكن التفاصيل ليس ذات أهمية. فأهمية خارطة پيترز هي أنها دليل حسي، أي هي موجودة بالفعل، ويمكن بالتالي استدعاؤها كقرينة من جانب من يفصّل “المؤامرة” التي تنسجها واشنطن. وفائدتها الأولية هي عند التلويح بها لتثبيت الشعور لدي المتابعين بأن المؤامرة حقيقة ثابتة، كيف لا ومن يقف خلفها هو برنارد لويس والبنتاغون نفسه.
بل هذه الخارطة هي مثال وحسب على الذخائر التي تحفل بها جعبة الملتزم بفكر “المؤامرة”. فكل من هذه إن هي لم تكن الموضوع، اعتبرت من المقومات الهامة التي تثبت صحة المقولة، وإن جرى تفنيدها وتبيان فسادها، تصبح وحسب تعبيرا عن أجواء عامة، لا مبرر للتوقف طويلا عندها.
أما عند التمحيص، فلا علاقة لهذه الخارطة ببرنارد لويس، وارتباطها بالبنتاغون يقف عند حد حرية التعبير من طرف مقدّم متقاعد ينشر في محفل عام لقدامى وزارة الدفاع، دون أن يكون للرجل لا الخبرة ولا المسؤولية ولا الأهلية، لا الحاضرة ولا السابقة للحديث في موضوع الدول وحدودها، ودون أن يكون في أقواله المقتضبة أي شرح لآليات الانتقال من الأوهام إلى الوقائع، فهذا متروك لمخيلة القارئ، سواء اعتبر الأمر حلما أو كابوسا، ودون أن تنسجم خطته المفترضة البتة مع المجريات والوقائع.
في المحصلة، خارطة پيترز ليست “خارطة برنارد لويس” ولا مشروع البنتاغون، ولا وزن سياسي لصاحبها، ولا قيمة ولا أهمية لها في رسم السياسات أو تنفيذها. ولكن كما يتبين من الإحالات المتكررة إليها، من الصعب سحبها من التداول الخطابي في السياسة العربية.
على أنه من الأصح اعتبار أن استدعاءها يكشف عن وهن الحجة لدى من يلجأ إليها، لا عن “مؤامرة” كبرى تضيّع على المتابع في المحيط العربي فرص تبين المؤامرات الموضعية العديدة والتي تواجها بلاده ومنطقته.
الحرة