أقلام مختارة

التنمر الإلكتروني: إطلاق رصاص على الإعلاميين في العالم الافتراضي

نضال منصور

نضال منصور

قبل أن يسدل الستار عن عام 2018 أظهر تقرير مراسلون بلا حدود الجانب المريع من استهداف الإعلام في العالم. وكشف التقرير الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون في كل مكان، ولا تعرف الحدود، وتتعدد وتتنوع حسب طبيعة النظام السياسي والواقع المجتمعي.

قتل 80 إعلاميا خلال عام 2018، وهو رقم يشير إلى تنامي وتزايد الضحايا الصحافيين. ربما سمع العالم بأسماء بعض الإعلاميين الذين قتلوا، ولكن الغالبية العظمى لم يعرف الناس عنهم، وعن قصصهم، وكيف أصبح “شهود الحقيقة” أول الضحايا.

الإفلات من العقاب ليس أمرا طارئا في العام 2018، بل هو قائم ونهج استمر، فالأرقام تشير إلى أن قتلة الصحفيين على مر العقود أفلت جلهم من العقاب والمساءلة.

لا تنظروا إلى قصة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول باعتبارها النموذج، فهذه هي الاستثناء، ولولا أن خاشقجي يكتب في “كبريات” الصحف الأميركية “واشنطن بوست” التي تابعت القضية، وحشدت مع وسائل الإعلام الأميركية الأخرى لإجلاء سر اختفائه، ولولا قناة الجزيرة التي وجدت في القضية فرصة إعلامية وسياسية للتضييق على السعودية وتصفية الحسابات معها، ولولا الاختلافات السياسية ولعبة المصالح الدولية بدءا من إسطنبول وصولا إلى واشنطن، لما أصبح قتل خاشقجي قصة عالمية تشغل الدول وتضعها على أجندتها، وتطالب بالقصاص من القتلة؛ فكم من إعلامي قتل في وضح النهار، ولم تهتم الكثير من دول العالم بإهدار دمه، وباستغاثة عائلته؟

 

الأرقام التي أعلنتها مراسلون بلا حدود مقلقة جدا، وتؤكد أن وسائل الإعلام المفترض أنها “سلطة رابعة” تعاني الترهيب، وأكثر من ذلك فإن الخطر الداهم تمدد ليطال النشطاء الإعلاميين على وسائل التواصل الاجتماعي، اللاعب الأكثر تأثيرا حاليا.

٣٤٨ إعلاميا احتجزوا، و60 صحافيا رهائن، وثلاثة آخرين مختفين قسريا، هذا عدا عن المحاكمات غير العادلة لمئات الإعلاميين في شتى دول العالم، والاعتداءات الجسدية الواقعة عليهم في مناطق التوتر والنزاعات والتظاهرات، ومنعهم من التغطية، وحجب المعلومات عنهم، وقرصنة مواقعهم الإلكترونية، وتهديدهم أو تهديد عائلاتهم وأسرهم.

ما تكشفه تقارير المنظمات الدولية والإقليمية والوطنية من مخاطر انتهاكات وضغوط على الإعلاميين لا يشكل كل الصورة بل جزءا منها، فهناك آلاف الصحافيين الذين لا يفصحون عما يتعرضون له، ويفضلون الصمت والسكوت حماية لهم من بطش السلطة وأجهزتها الأمنية.

♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦

اللافت في تقرير مراسلون بلا حدود لعام 2018 هو تسليط الضوء على ظاهرة “التنمر الإلكتروني” أو التهديدات الإلكترونية ضد الإعلاميين، وهو ما وصفه التقرير بأنه “إطلاق رصاص في العالم الافتراضي”.

يعتبر التقرير هذه الظاهرة خطيرة، وليست أقل خطرا من التهديدات والاعتداءات المباشرة، خاصة أنها تمثل سياقا منهجيا، وتقودها غالبا ـ وهو الأخطر ـ سلطة منظمة تمسك زمام الأمر مثل الحكومات وأجهزتها الأمنية، وتسعى في نهاية الأمر إلى تكميم أفواه الإعلاميين والنشطاء على منصات التواصل الاجتماعي.

سألني أحد مذيعي قناة المملكة في الأردن خلال استضافتهم لي للحديث عن تقرير مراسلون بلا حدود هل أصبح الاستهداف الإلكتروني أو التنمر الإلكتروني والتحريض ضد الصحافيين ظاهرة عامة لم تسلم منها حتى الدول الديمقراطية؟

قلت لصديقي الإعلامي طارق العاص إن هذا صحيح، فخطاب الكراهية والتحريض ضد الإعلاميين عابر للحدود، ويرتكبه الرئيس ترامب وغيره من الزعماء السياسيين، ولكن هناك فرق مهم وجوهري بين الدول الديمقراطية والدول غير الديمقراطية، ملخصه أن خطاب الكراهية في الدول الديمقراطية لا يصبح سياقا عاما ممنهجا تحميه الدولة، وفي الدول الشمولية غير الديمقراطية يصبح هذا الخطاب توطئة لحملة منظمة تفضي الى مخاطر أكثر قسوة وأثرا في غياب حكم القانون.

في أميركا يصف الرئيس ترامب الإعلاميين بأنهم “أعداء الشعب” وتقرر إدارة البيت الأبيض محاصرة مراسل CNN ومنعه من الدخول بعد اشتباك في الحوار مع الرئيس، لكن الصحافي يذهب مع إدارة مؤسسته إلى القضاء مشتكيا فينتزع حكما ويعود إلى البيت الأبيض. هنا يصبح الرئيس استثناء وليس حالة عامة تعادي الإعلام، بل على العكس فإن السلطات والمجتمع تنتصر للإعلام وتصون حرياته من التعسف.

ما يقوله ترامب من خطاب كراهية ضد الإعلام أصبح شائعا في العالم، فرئيس التشيك كما يقول تقرير مراسلون بلا حدود يضع دمية على شكل “كلاشينكوف” ويقول “هذا للصحافيين”، والرئيس الفلبيني يصرح بأن “الإعلاميين ليسوا محصنين من الإرهاب”، مما يفهم منه بأنه تصريح لاستهدافهم.

لا تتوقف ظاهرة التنمر الإلكتروني عند عبارات عابرة تخرج من زعيم سياسي، بل إن الأكثر خطرا حين يقود ما اصطلح على تسميته في العالم العربي “الذباب الإلكتروني” حملات تشهير ضد الإعلاميين، خاصة ممن يتابعون كشف قضايا الفساد، أو ينتقدون السلطة المستبدة، ويُستخدم في هذه الحملات المبرمجة تلفيق الفضائح ضد الإعلاميين وتحديدا الإعلاميات، وتفبرك أفلام مشينة ضدهن.

قد لا تحدث حملات التشهير الإلكتروني أذى جسديا، ولكنها تخلق رعبا وقلقا نفسيا لا حدود له، وهو ما يعمق ويسهم في انتشار ظاهرة الرقابة الذاتية عند الصحافيين، فحتى ينجو الصحافي من الاستهداف يتجنب الاقتراب من “التابوهات” ويبتعد عن دور الاستقصاء والبحث، وبالتالي تفقد وسائل الإعلام وظيفتها الأساسية في الكشف عن الحقيقة، ومراقبة السلطات وكشف انحرافاتها، وهذا هو المطلوب، من قبل المهاجمين.

♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦

لا نكشف سرا حين نقول إن العالم العربي من أكثر الدول خطرا على الصحافيين ووسائل الإعلام في العالم. هذا الخطر ليس وليد أعوام قليلة بل عقود من الممارسات المنهجية. وأشهر الاغتيالات وقصص القتل للإعلاميين ربما كانت من نصيب الصحافيين العرب. في السنوات الأخيرة تناوبت سوريا والعراق على تصدر لائحة أكثر الدول التي تشهد عمليات قتل للإعلاميين، ولا تتحمل مسؤوليتها فقط السلطة الحاكمة، بل تنافسها الجماعات الإرهابية، والمليشيات المسلحة.

إذا كان تقرير مراسلون بلا حدود عنوانه “الصحافة في دائرة الخطر”، فإن أبرز تجسيد لهذا العنوان حال الصحافة والصحافيين في العالم العربي. وتتفق السلطات السياسية العربية على معاداة وسائل الإعلام رغم اختلاف هوامش الحريات بين الدول، وتوظف هذه السلطات القوانين والسياسات لتحجيم دور وسائل الإعلام وحصارها، فإن لم تفلح كانت الممارسات التي تتجلى بالانتهاكات المتعددة الأشكال لها بالمرصاد.

بالتأكيد ليست كل دول العالم العربي في سلة واحدة في معاداة وسائل الإعلام، فهناك دول عربية تمثل استثناء نسبيا مثل (تونس، والمغرب، والكويت، ولبنان، والأردن) تتحرك فيها وسائل الإعلام بهوامش، وتناور لتثبت وجودها وقدرتها على الحركة والاستقلالية، فأحيانا تصنع قصص نجاح، وغالبا ما تتعثر لأن منظور السلطة والمجتمع ليست حاضنة لحرية التعبير والإعلام.

في تقرير مركز حماية وحرية الصحافيين لحرية الإعلام في العالم العربي لعام 2017 كشف النقاب عن رصد وتوثيق 3100 انتهاكا ضد الصحفيين ووسائل الإعلام، وسجل 919 انتهاكا جسيما من بينها مقتل 27 صحافيا، هذا عدا عن الخطف والتعذيب والاختفاء القسري والاعتداءات الجسدية، وربما يصبح الحديث عن الانتهاكات غير الجسيمة مثل منع التغطية وحجب المعلومات والقرصنة الإلكترونية والاستدعاءات الأمنية، ومنع النشر والرقابة المسبقة، حيثيات لا تبدو مهمة في سياق انتهاكات تصل للقتل والاختطاف والاختفاء القسري.

♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦

بعد تزايد الانتهاكات عاما بعد عام أتساءل هل هناك بارقة أمل في حماية الإعلاميين وتراجع الأخطار التي تهددهم؟

لا أملك إجابة قاطعة، لكن ما يجعلني أكثر اطمئنانا أن الجرائم التي ترتكب ضد الصحافيين مهما كانت صغيرة، وفي أي بقعة في العالم، لم يعد من الممكن إخفاؤها، والأهم أن هناك أصواتا ساهمت “السوشيل ميديا” بإشاعتها لن تقبل بالسكوت عن هذه الجرائم، وستظل تقلق مضاجع المنتهكين لحقوق “الشهود على الحقيقة”.

الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق