الأب ميلاد الجاويش
ماذا بقي أن نتمنّى للعام المقبل علينا ولم نتمنّاه؟ وكأنّه مَلَلنا من تمنّي السلام والأمان وراحة البال! منذ ما وعيتُ على هذه الدنيا، ما من سنة مرّت إلاّ وأتت أسوأ من الأخرى، مع أنّنا نكون قد أودعناها أمانينا الحلوة. تُراه ما هذا؟ إحباط؟ يأس؟ دائرة مُفرغة؟
ننظر حولنا فنرى الفوضى أينما كان! العالم ينتحر. نصلّي للسلام، والسلام بعيد! نصلّي لتوبة القلوب، والقلوب تائهة!
ننادي بالرجاء، ولا نَكِلُّ ننادي به، مع خوفنا أن يُستنفَدَ الرجاء، أن ينقطع من خوابي القلب.
قيل: إنّ المحبّة أعظم الفضائل. لكن في هذا الدهر، الرجاء هو الأعظم، الرجاء في أن تستقيم الأمور، أن تهدأ الخواطر، أن يعود الإنسان إلى طيبته.
يوم الخميس 13 أيّار 2010، وقف البابا السابق بندكتوس السادس عشر في ساحة معبد العذراء مريم في فاطيما في البرتغال، وتنبّأ بقدوم سبع سنوات عجاف. ثمّ عاد وأكّد، في كتابه “نور العالم” الصادر سنة 2010، أنّه بالإيمان لا بالعقل “مسار التاريخ سيتغيّر فجأةً، والانتصار يقترب. وأعتقد أنّ سلطة الشرّ ستُكبَح “.
بعد درب الجلجلة الطويل، أمنيتنا الوحيدة هي أن تكون السنة الآتية محطّةً من درب الانتصار المنتظَر. ما لنا إلاّ الرجاء! وكما نقول بالعاميّة: “مِن تِـمَّك لَبَاب السما”، يا قداسة البابا.
***
لولا فسحة الأمل هذه لَضَرَبنا التشاؤم التامّ. الأزمات هي نفسها وحالة الإنسان تتدهور سنة تلو الأخرى. لا شيء جديد تحت الشمس.
مع ذلك، غدًا يوم آخر.
مع كل إشراقة شمس، يشرق أمل جديد بالحياة. مع كل انبعاث نور، يبعث الله قبسًا من خيره على الأرض.
في الأرض أشرار، غير أنّها لا تخلو من رجال الله. في الأرض رجالُ حرب، في أيديهم أسلحة دمار. لكن هناك أيضًا صانعو سلام، مَن في قلوبهم شَرَر إلهيّ.
الله لا يهجر التاريخ، لا يدعه لعبة في أيدي خصومه. الأرض، هو صانعها. لن يتركها للعبث. هو يعمل بطريقة خفيّة، وعمل الله عادةً يتمّ في الخفاء. أهل الأرض يزمّرون أمام أعمالهم، أمّا الله ففي الخفاء يعمل، لا تدري شماله ما تعمل يمينه.
***
لنأخذِ العبرة من الحياة نفسها.
أجمل ما في الحياة قدرتها على التجدّد، على التغيّر والتطوّر. كلّ شيء تحت السماء يتغيّر: الطبيعة، الزمن، الكائنات الحيّة، الإنسان… يكفي أن ندّلج فجرًا لنرى كيف أنّ الكون يتجدّد، كيف ينتهي الليل والشمس تطلع، فيكون مساء ويكون صباح يوم آخر.
رائع كم نتطوّر! أنا اليوم غير البارحة، وغدًا غير اليوم، وبعد غد غير الغد. “لا أسبح في المياه نفسها مرّتين”، يقول الفيلسوف اليونانيّ هيراقليتوس.
كم أقع على أناس حكموا على أنفسهم بالموت، وقالوا: “أنا هكذا لا أتغيّر”. هم في ضلال عظيم! والآخر الذي أمامي يتغيّر. هو اليوم غير البارحة، وغدًا غير اليوم. أحيانًا نقتل الآخر عندما نحكم عليه بالجماد، عندما نلصق عليه إشارة ثابتة: “هو هكذا، وسيبقى هكذا”.
غدًا 2019، وبعدها ستتوالى أيضًا السنون، وستقع أيّام الرزنامة الواحدة بعد الأخرى.
الحياة إلى الأمام، وإن لم نواجهْها بالرجاء تسبقنا ويسبقنا العمر.
“كونوا دائمًا مستعدّين أن تردّوا على من يطلب منكم دليلَ ما أنتم عليه من الرجاء”، هكذا كتب القدّيس بطرس في رسالته (1بط 3: 15).
فليقُلْ قارئي في سرّه: البارحة لربّي، واليوم له، وغدًا أيضًا. لا أخاف من الغد، ولا ممّا يخبّئه لي. ما يخبّئه أروع ممّا راح.
تفاؤل فارغ؟ لا، بل ثقة بمن بيده السماوات والأرض، وبسلطانه الأزمنة والأوقات.
فأهلاً بما سيأتي.
لا نَخفْ من شيء، ولا حتّى من الصراع. الحقيقة وليدة الصراع والجدل والاحتكاك والأخذ والردّ. ليس في العالم من حقيقة خام. بل كلّ حقيقة لا تنكشف إلاّ بعد تعب وحزن وتنهّد. حتّى الله نفسه، لا يُكتَسب بالهيّن. من منّا يمكنه الادّعاء بأنّه يحوي الله بين يديه؟
الله في الصيرورة، من الغد يأتي. يُقال في الفرنسيّة: “Dieu vient de l’avenir”. كلّما اكتشفنا شيئًا عنه، غابت عنّا أشياء.
في 2019، ينتظرنا الله “غدًا”، والرجاء بين يدَيه هديّة.