ابراهيم العريس
لعل من أغرب غريب ما يحدث في إيران الملالي والحرس الثوري اليوم، هو تلك المعركة التي تخوضها السلطات بقضّها وقضيضها، ليس ضد الإيرانيين من الذين باتوا يحنون إلى الشاه وذريته، وليس ضد اليساريين الذين كانوا هم أول أصحاب تلك الثورة التي عملوا من أجلها طويلاً بعدما أشعلوها طوال سنوات وجابهوا الشاه واستخباراته تعزيزاً لها، فكانوا هم أول ضحاياها ولا يزالون بعد نحو أربعة قرون من الحكم الثيوقراطي، بل ضد الصوفيين، أولئك الذين كان يفترض بهم من ناحية أن يكونوا حلفاءهم، خصوصاً أنهم ما اعتادوا أن يطمعوا بسلطة، كما كانوا من ناحية ثانية محيّدين لكونهم، بعد كل شيء، يشكلون نوعاً من الضمير الروحي للشعب الإيراني. لكن كل هذا لم يشفع للصوفيين وها هي السلطات تنكل اليوم بهم تنكيلاً لم يفت صديقاً لنا إيرانياً معارضاً، أن يصفه، على طريقة التورية الفارسية المعهودة، بأنه «خنجر في عنق حافظ الشيرازي». وحافظ كما نعرف، هو الأكبر بين الشعراء الصوفيين والمفكرين الذين كوّنوا الضمير الشعبي في إيران وتركوا لشعوب هذا البلد إرثاً شعرياً وفكرياً لا يضاهى. فمن هو حافظ الشيرازي وما موقعه في الحياة الروحية في إيران؟ هنا نحاول الإجابة منطلقين من مكان بعيد جداً… من ألمانيا تحديداً. كما من زمان يكاد يتوسط بين زمننا وزمن حافظ نفسه… من بدايات القرن التاسع عشر.
> «لقد عرفت ما يريده الكل وفهمته خير فهم، لأن الحنين يقيدنا جميعاً بأصفاد شداد من التراب إلى العرش. إنه يؤلم أولاً، ومن بعد يسر، فمن يقوى على مقاومته؟… ألا فلتغفر لي أيها الأستاذ، فأنت تعرف إني كثيراً ما أضل الطريق، حين يجذب البان السائر إليه عين العاشق الناظر…». هذه السطور مأخوذة هنا من قصيدة «إلى حافظ» التي كتبها شاعر ألمانيا الكبير غوته في العام 1818، ونشرت للمرة الأولى في «الديوان الشرقي». وعلق غوته على هذه القصيدة يومها بقوله: «إن شاء الخبراء أن يروا صورة حافظ في هذه القصيدة، فإن هذه المحاولة ستسرّ قلب الغربي». ولئن كان «الغربي» المعني هنا هو غوته نفسه، باعتباره صاحب «الديوان الشرقي للشاعر الغربي»، فإن «حافظ» إنما هو حافظ الشيرازي، شاعر الفرس الأكبر، والذي كان اكتشافه في الغرب شكل صدمة إيجابية مدهشة، ولم يكف منذ ذلك الحين من أن يكون وشعره، محل شتى التفسيرات ومحط إعجاب كان جزءاً من نزعة رومانطيقية استشراقية عامة. وكان غوته من أكبر المعجبين بحافظ، إذ خصّه بقسم كبير من ديوانه، واضعاً قصائد عدة في ذلك القسم الذي عنونه «حافظ نامه» أو «كتاب حافظ». وغوته في تلك القصائد فسّر حافظ وأعاد تفسيره، وعارض نفسه بنفسه في أحيان كثيرة. وهو إذ فعل هذا إنما عكس ذلك التناقض الذي حملته على الدوام النظرة إلى حافظ: فهل كان شاعراً صوفياً كما رأى كثيرون، أم كان شاعراً بوهيمياً؟ وهل حالات العشق والمجون التي عبر عنها ودعا إليها في أشعاره، حالات مباشرة، أم رمزية على غرار ما كان يفعل الصوفيون؟
> كان ما أعجب غوته في حافظ، كما يقول عبدالرحمن بدوي في تقديمه لترجمته العربية للديوان الشرقي، إقبال حافظ على السرور «وعلى التمتع بكل ما تأتي به اللحظة الحاضرة واللحظة الماضية في اللحظة الحاضرة. كما استهواه فيه سخريته من الزاهدين العازفين عن الحياة، فقال: إن شعره تفيض منه حيوية متدفقة في غير إسراف، سعيد حكيم يأخذ بحظه من متع الحياة، وينفذ من بعيد إلى طوايا الألوهية. ولكنه ينكر اللذة الحسية وممارسة الشعائر الدينية. وبالجملة يكشف عن أثر شاكٍّ وحميّا قلقة. وإلى هذه الصفة الأخيرة من الأثر الشاك والحميا القلقة في نفس حافظ يعزو غوته ما يشاهد في شعر حافظ من تناقض». ويضيف بدوي أنه «على رأي غوته، يكون علينا أن نأخذ بما يقتضيه صريح كلام حافظ، وألا نلجأ إلى التأويلات الخيالية التي تحيل الظاهر إلى باطن وكل صريح إلى رمز. وإن كان هذا لا يمنع من تعمق المعاني التي يوردها، وعدم أخذ النص بحروفه».
> عُرف مجمل الشعر الذي أُثر عن حافظ بـ «ديوان حافظ»، كما أن حافظ نفسه عرف دائماً بلقب «عندليب الغيب». وحافظ وضع قصائده الكثيرة التي يتألف منها الديوان عند أواسط القرن الرابع عشر، لكن لم يكن هو من جمعها في «الديوان» بل كان ذلك من عمل دولت شاه في القرن الخامس عشر. عمد دولت شاه هذا إلى وضع أول تفسير لأشعاره، كان فيها من الغموض ما أكد على أن حافظ نفسه لم يكن كبير الاهتمام بأن تُفهم أشعاره وذلك لأن «الحب والثمالة سرّان لا يتعين أبداً الكشف عنهما»، إذ إن شرح هذين أمام «الجماهير العريضة، أمر لا يمكن أن تقوم به حتى ألسنة الملائكة».
> يتألف «ديوان حافظ» من بضع مئات من القصائد التي تتفاوت طولاً وفي معانيها، لكن القسم الأكبر منها ينتمي إلى شعر الغزل. والقصائد في مجملها تعبر بحب وحماسة، وفي لغة جذلة وتركيب متميز، عن الحب والخمر والطبيعة وعناصرها. ولعل العنصر الأساسي من عناصر الطبيعة هنا هو القمر الذي يتوسط كبد السماء مشعاً نوره على الكون متألقاً في ذاته غير مبال حتى ولا بالزهور التي تضخّه بعطرها أو بالعنادل التي تتوجه إليه بغنائها. والقمر هنا، تحت يراع حافظ، يبدو شبيهاً بزليخة (أو سليمى في بعض الأحيان) رامزاً إليها.
وزليخة هي المرأة التي يحبها حافظ، ويعيش ملتاعاً لأنها لا تعبأ بحبه تماماً كما لا يعبأ القمر بما حوله. وحافظ يتفنن في كل قصيدة من قصائد ديوانه بتصوير حدائق الورود وطيران الحمام في الأعالي. ومن الواضح أنه يرسم هذا كله ليحيط به جمال محبوبته البعيدة المنال. المحبوبة التي هي من الحسن بحيث أن «الكون الذي يبدو كعبد أسود في خدمتها، يمد إليها مرآة لكي تتملى هي نفسها في كل لحظة من جمالها». غير أن المتحدثين عن هذه القصائد والقدر الهائل من الحب الذي يملأها، ينبهوننا إلى أن ما يعبر عنه حافظ، ليس الشغف القاتل، بل الرغبة- وهو بات على أعتاب الكهولة- في أن يعيش بهدوء ودعة. إن ما يعبر عنه حافظ هنا إنما هو الفلسفة الذاتية التي توصّل إلى صياغتها والعيش في أحضانها، وفحواها أن لا شيء جديراً باهتمامنا في الحياة سوى الحياة نفسها. أما الباقي فليس سوى طريق يوصلنا إلى الحقيقة الوحيدة: الموت. ولعل ما يلفت هنا هو أن حافظ لا يكفّ عن تشبيه الخطيئة بامرأة ساحرة مشتهاة، بينما الفضيلة بالنسبة إليه تشبه هيكلاً عظمياً مرعباً. إذ، بالنسبة إلى حافظ، قد يكون أمراً رائعاً أن نصل إلى الفضيلة المطلقة، وإلى النقاء التام، ولكن علينا في الوقت نفسه أن نخطئ ونثمل ونحطم النقاء حتى ندركه وندرك دلالته!!
> حافظ، واسمه الكامل محمد شمس الدين حافظ الشيرازي نسبة إلى مدينته شيراز ولد عام 1325/1326، في شيراز نفسها التي سيموت فيها بين عامي 1389/ 1390. وهو تلقى فتياً دراسة دينية لا تقليدية، ثم أصبح مدرساً للقرآن الكريم ومفسراً له. ثم انصرف إلى الشعر حتى صار شاعراً رسمياً في بلاط أمراء شيراز خلال عقود طويلة من السنين.
لكنه ذات مرة أغضب الأمير كما يبدو ما جعله يبتعد عن البلاط طوال عشرين عاماً. وبعد ذلك، وحين بدأت الغزوات المغولية، التقى تيمورلنك، كما تقول لنا بعض الروايات التاريخية غير المؤكدة والتي يقتبس بعضها، على الأرجح حكاية لقاء إبن خلدون بالزعيم المغولي الغازي مسقطاً إياها على الشاعر الصوفي الفارسي. ومهما يكن فإن بعض شعر حافظ، يعكس أحداثاً تاريخية عاشها وصدى لقاءاته مع الشخصيات المهمة في زمنه، كما يعكس نظرته الأخلاقية والفكرية ونقده الحاد للذهنيات في زمنه… هو الذي كان أشد ما يؤلمه عالم النفاق الذي كان يسيطر على كبار القوم في ذلك الزمن، كما كانت التفاهة تؤلمه. ومن الواضح أنه جعل من شعره صدى لذلك كله، كما أن ذلك الشعر الذي لم يكف عن كتابته يوماً خلال حياته، كان يحمل نظرته إلى الكون وإلى ما وراء الكون، بحيث يبدو في نهاية الأمر وكأنه سيرة ذاتية له، وسيرة ذاتية لموقع الإنسان في هذا الكون.
الحياة اللندنية