فاي فلام
قد يتصور المرء أن العلماء يطنبون ويدندنون كثيراً حول دراسة حديثة أُجريت وحملت عنوان «تصديق الأخبار المزيفة مرتبط بالتوهم، وصلابة الرأي، والتعصب الديني، وتدني التفكير التحليلي». والخلاصة القائلة بأن بعض الناس هم أكثر سذاجة من غيرهم يرجع بالأساس إلى الإدراك الثقافي للأمور – ولكن في المجال العلمي فإن تلك الخلاصة تتعارض تماماً مع أنموذج مُعتقد به على نطاق واسع، ذلك الذي تشكل إثر العديد من الدراسات المخالفة لما يعتقده الجميع والتي تشير إلى أننا جميعاً متحيزون، وغير عقلانيين، ومُرجح لنا قبول الدعاية الإعلامية، والتجارية، والهراء العام، والإيمان التلقائي بفحواه وما يدعو إليه.
يقول الخبراء إن اللاعقلانية المستمرة هي من سمات البشر على مستوى عالمي. وذكّرنا أحد كُتّاب الأعمدة في صحيفة «واشنطن بوست» مؤخراً بشخصية جوناثان هيد، ومقاله حول «الإقناع والتأثير» ومدى سوء تفكير البشر من حيث الاستدلال (التعقل) القائم على الأدلة، كما يشير المقال كذلك إلى «التفكير السريع والتفكير البطيء» للدلالة على تأثرنا بالعشائرية، والانتمائية، والغرائزية بأكثر من تأثرنا بالأدلة الدامغة. ولكن أليس من الممكن أن ينسحب هذا الوصف على بعض الناس دون غيرهم؟ وهل من المستساغ التصديق أننا جميعاً نعقل الأمور بشكل سيئ للغاية؟ ومن حسن الطالع أن يظن بعض العلماء في قدرتهم على الاستدلال القائم على الأدلة، وأنهم قد أولوا بحث المسائل والتحقق منها العناية الواجبة.
يعترف عالم النفس الكندي غوردون بينيكوك، أحد مؤلفي دراسة التوهم المشار إليها وأبرز شخصيات المعسكر المؤيد لفكرة أن بعض الناس أكثر سذاجة من غيرهم، أنه من الغريب بدرجة طفيفة أن تُنشر دراسة تبرهن على أن «الأفراد الأذكياء هم أفضل من حيث عدم تصديق الأمور السخيفة». وتلك هي الخلاصة المتوصَّل إليها في دراسة حديثة لم تُنشر رسمياً بعد تحت عنوان «إمعان النظر في العلاقة بين التطور المعرفي والتحيز الوقائي للهوية في تشكيل المعتقد السياسي»، والتي أشرف بينيكوك على تأليفها رفقة بن تابان وديفيد راند.
وهم يبحثون فكرة أن الأشخاص الأذكياء، إنْ حلّ بشأنهم أمر ما، يُرجح تصديقهم للأنباء المزيفة، نظراً إلى أن تنبههم العقلي يساعدهم على المزيد من التعقل. وهي إحدى المدارس الفكرية التي نالت قدراً من الانتشار نظراً إلى أنها معقَّدة بعض الشيء من ناحية، ولأن وجهات النظر التي تجمعنا معاً لها نصيبها من الصواب السياسي من ناحية أخرى.
وترجع أصول هذه المدرسة الفكرية، على نحو جزئي، إلى أحد باحثي جامعة ييل ويُدعى دان كاهان، الذي أجرى بعض التجارب التي حازت التقدير على نطاق واسع والتي تثبت أن آراء الناس في الأمور الفنية مثل التغيرات المناخية والطاقة النووية تستند بشكل كامل تقريباً إلى درجة الانتماء السياسي.
وكنت قد كتبت مقالاً عن أعمال كاهان من قبل، وأشرت فيه إلى دراسة أثبتت أن الأشخاص الأفضل في مجال الرياضيات والمنطق، هم الأفضل في انحياز وجهات نظرهم الشخصية صوب الآيديولوجيا، حتى وإن اشتملت تلك الآراء ووجهات النظر على بعض الأفكار التخليقية أو المواقف غير العلمية الأخرى.
وأعرب بينيكوك عن اتفاقه مع كاهان في ذلك إلى حدٍّ ما، وهو لا يتعارض مع نتائج دراساته التي توصل إليها سابقاً، ولكنها تنسحب فقط في حالات معينة، منها التغيرات المناخية على سبيل المثال، حيث يكون الموضوع فنياً ومعقداً بعض الشيء. وفي ما يتصل بالتلفاز، يمكن لكبار الدجالين، الذين يحسنون التلاعب بالألفاظ والكلمات والعبارات الرنانة، أن يثيروا استحسان العوام من الناس وإعجابهم كما لو أنهم من خبراء العالم الحقيقيين في بعض المسائل. غير أن بينيكوك وزملاءه تساءلوا ما إذا كان هذا الاستنتاج المضاد للحدس السليم ينسحب بدوره على نطاق هو أكثر عمومية.. ولوضع المسألة على المحكّ، أظهروا لعينات البحث مزيجاً من الأنباء المزيفة وأخرى واقعية وحقيقية ثم طلبوا منهم تقييم مدى صدق كل منها. وخلصوا إلى أن بعض الأفراد خرجوا بنتائج سيئة للغاية في هذا الاختبار، وبعضهم كانت نتائجهم جيدة للغاية، وأن أفضل مؤشر للتمييز بين الأنباء كان أمراً يُطلق عليه مسمى «اختبار الانعكاس المعرفي».
وتُستخدم في الاختبار أسئلة على شاكلة: «سعر الخفاش يزيد دولاراً على سعر الكرة. وسعر الخفاش والكرة معاً يبلغ 1.10 دولار. فكم يبلغ سعر الكرة منفردة؟»، ارتبطت الدرجات المنخفضة بالدوغمائية الدينية، والإيمان بالخرافات، والاعتقاد في نظريات المؤامرة فضلاً عن نوع من الأقوال المأثورة التي يصفها بينيكوك بقوله «الزيف العميق». وإدراك من يصدق الأنباء المزيفة ولماذا يصدقها يتلامس مع الديمقراطية الأميركية في المقام الأول.
لماذا نُكلف أنفسنا عناء الاستماع إلى الخبراء الذين أمضوا جُل حياتهم عاكفين على دراسة أمر ما إن كانوا، مثلنا جميعاً، سوف يفشلون في اختبار العقلانية في خاتمة المطاف؟ ولماذا نحاول إمعان التبصر أو التفكير في أي شيء بالأساس؟
حسناً، ربما لأن الحقيقة أمامنا في مكان ما. ففي كتاب بعنوان «شبكة الدعاية»، عكفت مجموعة من الباحثين من جامعة هارفارد على تحليل الآلاف من مدونات ومكتتبات التواصل الاجتماعي لإثبات أثر المعلومات الكاذبة والمضللة في السياسة الأميركية. كما أنهم حاولوا تفنيد الخرافة القائلة بأن الحزبيين على تياري اليمين واليسار السياسي خاضعون تماماً لتأثير نفس القدر من الأكاذيب. ويقولون إن البيانات التي بين أيديهم تُظهر أن المشكلة تتركز فحواها على تيار اليمين.
وهذا لا يعني أن الأشخاص الذين يجيدون التقاط الأنباء المزيفة ويحرزون درجات جيدة في «اختبار الانعكاس المعرفي» هم أكثر ذكاءً من الأشخاص الآخرين. وكما قال مايكل شيرمر منذ فترة ليست بالقصيرة في كتابه المعنون «لماذا يصدق الناس الأشياء الغريبة؟»، إن الأشخاص الأكثر إبداعاً – وحتى العلماء المشهورون منهم – يمكن أن يتعرضوا لنوع من الأوهام ويعتقدون في بعض الأحيان في علوم التنجيم أو يصدقون بعض نظريات المؤامرة.
ويؤيد بينيكوك الفكرة القائلة بأن هذه ليست مجرد مسألة معرفية بحتة، بل يمكن أن تشمل مكونات من الشخصية والسلامة العقلية للفرد. وكما قال شيرمر في كتابه بوجود أشخاص مبدعين يعانون نوعاً من أنواع الأوهام السائدة، فهناك أيضاً أشخاص أذكياء للغاية ومرضى بالنرجسية الغالبة على شخصيتهم – وهم الأشخاص المصرون على أن علماء المناخ كافةً ليسوا إلا حفنة من الحمقى والأغبياء، على سبيل المثال. ولا يزال البعض يعتقدون أن الكرة تكلف 10 سنتات كاملة، ويسخرون من غباء الناس الذين لا يصلون إلى هذه النتيجة على نحو فوري!
الشرق الأوسط
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»