السلايدر الرئيسيشرق أوسط

بين قدّاس الكنيسة والاعتذار من الله: مخاوفُ من استغلال قضيّة النائبة الطبش لأغراضٍ فتنويّةٍ في لبنان!

جمال دملج

ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ على رغم أنّ رمزيّة مشارَكة النائبة اللبنانيّة رولا الطبش جارودي في قدّاس المحبّة والسلام الذي أُقيم مطلع الأسبوع الجاري داخل صرح كنيسة مار الياس في انطلياس لا تخرج في إطارها العامّ عن نمط اللياقات الاجتماعيّة المعهودة في بلدٍ يلتزم بصيغة التعايُش المشترَك بين كافّة مكوِّنات طوائفه ومذاهبه المتعدِّدة مثل لبنان، فإنّ الحملات الهجوميّة المركَّزة التي تعرَّضت لها هذه النائبة المنتخَبة حديثًا عن أحد المقاعد السُنّيّة في بيروت، والتي وصلَت إلى حدِّ تكفيرها بسبب حضورها ما وصفه المنتقِدون بـ “مراسمِ طقسٍ مسيحيٍّ”، ومن ثمّ قيامها بالتوجُّه نحو الكاهن لتلقّي سرَّ التناوُل من الكأس المقدَّس، سرعان ما أدَّت إلى تجريد تلك المشارَكة من بعض عناصِر رونقها وتألُّقها، ولا سيّما بعدما استوجَب الأمر على النائبة المستهدَفة بهذه الحملات زيارة دار الفتوى في نهاية المطاف لكي تُسقِط عنها تهمة الكُفر والارتداد عن الدين الإسلاميّ، حيث استمعَت إلى شرحٍ مسهَبٍ حول أصول الشريعة، لتنطُق على الفور بالشهادتين تأكيدًا على التزامها بالإسلام، ولتتوجَّه إثر ذلك إلى الله بالاعتذار عمّا فعلَته، علمًا أنّها كانت قد دافعَت في البداية عن مشاركتها في القدّاس بأسلوبٍ منطقيٍّ لا لُبْسَ فيه، معتبِرةً أنّ حضورها في الكنيسة ومرورها أمام الكاهن يُجسِّد احترامًا للأديان وترسيخًا لقيم التعايُش، ومشدِّدةً على أنّ الطقوس واحترام عادات الغير لا تُلغي الإيمان الداخليّ ولا تجعل المسلم كافرًا، وموضحةً أنّها ليست أوّل مسلمةٍ تدخل الكنيسة ولن تكون الأخيرة.

وإذا كان التراجُع عن هذا الدفاع المنطقيّ لصالح الإعلان عن “التوبة النصوح” قد أدّى إلى تعريض النائبة اللبنانيّة لحملاتٍ انتقاديّةٍ هجوميّةٍ جديدةٍ، ولا سيّما بعدما اعتبَر البعض أنّ الاعتذار من الله عن دخول أحد بيوته، في إشارةٍ إلى أنّ المسيحيّين في الدين الإسلاميّ هُم من أهل الكتاب، تضمَّن إهانةً للجانبين على حدٍّ سواء، فإنّ أكثر ما يبدو لافتًا في غمرة الإيقاع الصاخب للمفردات المستخدَمة في هذه الحملات المركَّزة يتمثَّل في ظهور ما يُشبِه النزعة الضمنيّة عند عددٍ من مكوِّنات الطوائف الإسلاميّة للتصويب على النائبة رولا الطبش جارودي دون سواها، وذلك لمبرِّراتٍ تتعلَّق بانتمائها السياسيّ لـ “تيّار المستقبل” وليس لأيِّ مبرِّراتٍ أخرى تتعلَّق بانتمائها الدينيّ، وخصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ حصيلة ما تمَّ نشره حول هذا الموضوع على مواقع التواصُل الاجتماعيّ تُظهِر بوضوحٍ أنّ أسلوب المبالغة والمغالاة في صبِّ سيل الانتقادات لم يحمل في سياقه أيَّ إشارةٍ إلى أنّ تداخُل العوامل الدينيّة بالعوامل السياسيّة في مثل هذه المواقف غالبًا ما يضَع أيَّ شخصٍ في مواقفَ محرجةٍ لا يُحسَد عليها، علاوةً على أنّه لم يكن أسلوبًا منزَّهًا عن خطايا نزعات التجييش التحريضيّ لأغراضٍ فتنويّةٍ بين اللبنانيّين بأيِّ شكلٍ من الأشكال.

على هذا الأساس، يُصبح في الإمكان القول بكلِّ أمانةٍ إنّه لولا تلك النزعات التحريضيّة القائمة على مبدأ المبالغة والمغالاة في استغلال الدين لأغراضٍ سياسيّةٍ في أجندات المنتقِدين، لما كانت النائبة رولا الطبش جارودي ستضطرُّ لاستخدام أسلوب المبالغة والمغالاة من أجل إسقاط تهمة الكُفر والارتداد عنها، ولكانت مشاركتها في قدّاس المحبّة والسلام، تلبيةً لدعوةٍ من “جمعيّة العمل من أجل السعادة”، في كنيسة مار الياس في انطلياس قد مرَّت بسلاسةٍ تتناسب مع سلاسةِ الحدث نفسه، من دون أيِّ مبالغةٍ أو مغالاةٍ أو إحراجٍ أو تكفيرٍ أو ارتدادٍ ولا من يحزنون… وحسبي أنّ الحديث عن رمزيّة كنيسة مار الياس في انطلياس على وجه الخصوص لا يمكن أن يستوفي حقَّه كاملًا في هذه العجالة من دون الرجوع إلى التجلّيات المشرِقة لما جرى داخل صرحها في شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2014 لدى إقامة ذكرى الأربعين لوفاة الراحل السيّد هاني فحص، جامع الأديان في حياته وفي مماته، وهي التجلّيات التي كانت قد بدأت عند مدخل الكنيسة بورودٍ بيضاءَ قدَّمتها الصبايا للمشارِكين من أجل وضعها على المذبح بالقرب من صورة السيّد الفقيد، قبْل أن يرتفع صوت الآذان مع تراتيلَ كنسيّةٍ آسِرةٍ أضفَت على المناسَبة جوًّا روحانيًّا دافئًا من الخشوع، لتبدأ الإعلاميّة رانيا بارود إثر ذلك بتقديمٍ جميلٍ دمجَت فيه سورة الفاتحة مع دعاء أبانا الذي في السموات والأرض، وليبدأ المطارنة والمشايخ الذين عرفوا الراحل عن قربٍ بإلقاء كلماتٍ مؤثِّرةٍ أضاؤوا فيها على جوانبَ عديدةٍ من فكره الواسع والمستنير، وليأتي دور الموسيقى في معزوفاتٍ تأمُّليّةٍ وترتيلاتٍ مبارَكة من مزامير داوود، وليُفاجىء المنظِّمون بعد ذلك الحاضرين بعلامةٍ فارقةٍ تمثَّلت في أنّ الكنيسة استضافت مقرئًا للقرآن الكريم للمرّة الأولى في التاريخ اللبنانيّ، فقرأ سورة مريم بصوتٍ صادحٍ على مسامع الجميع… وحسبي أنّ لبنان تألَّق يومذاك بأبهى صوره المعبِّرة عن رسالته الحضاريّة الحقيقيّة من دون الوقوع في أفخاخ التخوين والتكفير والارتداد والتجريح… والخير دائمًا في التذكير برونق ذلك اليوم وبرمزيّة كنيسة مار الياس في انطلياس من وراء القصد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق