عريب الرنتاوي
خلال العقد الأخير، ومع اقتراب الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية “سايكس ـ بيكو”، وتحديدا مع اندلاع ثورات ما بات يعرف بالربيع العربي، وصعود الإسلام السياسي المسلح و”العنيف”، وتنامي الأدوار الإقليمية في المشرق العربي على وجه الخصوص، راهن كثيرون على “سقوط خرائط هذا الاتفاق وخطوطه، وبادر باحثون ومحللون استراتيجيون إلى رسم خرائط جديدة للمنطقة، تتطابق إلى حد كبير، مع خرائط الانتشار الديني والتوزع العرقي والمذهبي في دولنا ومجتمعاتنا.
بيد أن خرائط سايكس ـ بيكو صمدت أمام عواصف الثورات وأعاصير الأطماع الإقليمية، وبرهنت، رغب بعضنا ذلك أم كره، بأنها ليست واهية كخيوط العنكبوت كما كان يظن، والأهم أنها ليست “أسوأ شيء” يمكن أن يحدث لأهل هذه المنطقة وشعوبها.
والحقيقة أن ما جرى في العراق طوال ما يقرب من العقدين من الزمان، وفي سوريا طوال ثمانية أعوام من الأزمة، وتداعيات كلا الأزمتين على لبنان، شجع بعض الباحثين والخبراء على تسطير بطاقة “نعي مبكر” لخرائط سايكس ـ بيكو وحدود الدولة الوطنية العربية الحديث، ولسان حالهم يقول: هنا، وفي هذا “الهلال” بالذات، تزدحم الأقوام والطوائف والأديان والمذاهب… هنا، وهنا بالذات، يمكن للتاريخ أن يحدث استدارته أو “قفزته” بعد مرور مئة عام على ذاك الاتفاق المشكّل لجغرافيا المشرق العربي وهلاله الذي كان خصيبا ذات يوم… لكن ذلك لم يحدث.
حافظ العراق بعد سقوط نظام صدام حسين على وحدته الترابية، برغم انقساماته المجتمعية المدمرة، وحربه الأهلية الطاحنة، وحروب الآخرين عليه، وتحوّله إلى أول وطن لـ”الخلافة” بعد قرن من سقوطها. سقط حلم أكراده بالاستقلال الوطني وتقرير المصير، بعد فشل تجربة الاستفتاء “الرعناء” وغير المدروسة، وتخلي الحلفاء الأقربين عن حلم الكرد بمستقبل خاص بهم، يديرون فيه شؤونهم بأنفسهم، في إطار دولة سيدة ومستقلة.
وإذ بلغ الصراع السني ـ الشيعي مذهبا دمويا غير مسبوق في تاريخ بلاد الرافدين، إلا أن تطورات السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة، شهدت انطفاء جذوة هذا الصراع المدمر، أو خفوتها على أقل تقدير، وبدا أن رياح “الوطنية العراقية” قد أخذت تهب على العراقيين من جديد و”قوائهم الانتخابية”. وشهد العراق حراكا مدنيا ـ شعبيا ـ شبابيا بخاصة، عابرا للأقوام والطوائف، وتوحد العراق ضد “توحش داعش” وسقطت رهانات بعضهم على التنظيم الإرهابي الأكثر دموية، وأخذت فئات متزايدة من “المكون الشيعي” تجهر بانفصالها عن إيران ومشروعها الإقليمي، وتدعو لعودة العراق إلى حاضنته العربية، دولة سيدة مستقلة كذلك.
وفي سوريا، وبرغم سنوات أزمتها العجاف الثمانية، وما اعتراها من “اشتباك مذهبي” عنيف، وإن كان أقل حدة من نظيره في العراق، سقطت أيضا مشاريع التقسيم، أو هي تترنح اليوم في طريقها للسقوط. خسر الأكراد رهاناتهم على استقلال “روج آفا”، ولُدِغوا من جحر الخذلان والتخلي مرتين، الأولى في عفرين والثانية بقرار إدارة ترامب الانسحاب من سوريا.
وصُدم السوريون، عربا وكردا من مختلف الملل والنحل، بحديث ترامب عن سوريا بوصفها أرض “الرمل والموت”، ويبدو أن عام 2019 سيكون عام التسويات الكبرى للأزمة السورية، ومن على قاعدة “حفظ وحدتها الترابية” وخطوط سايكس ـ بيكو المشكلة لجغرافيتها وإقليمها. العملية لن تكون سهلة، ولن تسير على خط مستقيم، فثمة مصالح متناحرة في سوريا وعليها، لكن الوجهة العامة لتطور الأحداث في سوريا، تشير إلى هذه النتيجة.
ظنت الحركات الأصولية الدينية، التي لا تعترف بـ”بالقوميات” ولا تقيم وزنا للدول وحدودها المعترف بها وسيادتها المشروعة على إقليمها، وتبني خطابها على مفهوم “الأمة” بالمعنى الإسلامي للكلمة، ظنت هذه الحركات أن بمقدورها أن تزيل خطوط سايكس ـ بيكو مرة وإلى الأبد، وإن تعيد توحيد “الأمة” تحت راية “الخلافة”، ولعل صور “جرافات” داعش” وهي تزيل الحواجز الحدودية بين سوريا والعراق بعد إعلان “دولة البغدادي”، قد حملت من الدلالات الرمزية ما يكفي لتسريع إعلان موت سايكس ـ بيكو ونهاية قرن من التقسيم والانقسام في العالم العربي… لكن “داعش” ومشروعها وجغرافيتها و”خلافتها” هزمت في سوريا والعراق، وثبت أن مشروعها غير قابل للحياة والاستمرار، وبإجماع إقليمي ـ دولي نادر.
وظنت دول إقليمية مثل إيران وتركيا وإسرائيل، أن بمقدورها أن تنقض على “تركة الرجل العربي المريض”، وأن تشرع في رسم الخرائط وترسيم الحدود من جديد، لتكتشف سريعا، أن مسارا كهذا، يستبطن “مبدأ الدومينو”، وأن معول التقسيم والتفكيك، إن فعل فعله في سوريا والعراق، سيمتد إلى تركيا وإيران، وأن إسرائيل التي خبرت كيف تتعامل مع “الشيطان الذي تعرف” فضلت في نهاية المطاف، التخلي عن “الشياطين التي لا تعرف”، وقبلت بتسهيل مهمة “المايسترو” الروسي في جنوب سوريا، وامتنعت عن المضي في مغامرة بناء “شريط حدودي” جديد في جنوب سوريا، لن يكون مصيره أفضل من مصير الشريط اللبناني الذي انهار على نحو درامي في الخامس والعشرين من أيار/مايو 2000.
لا زالت بعض هذه الدول الإقليمية، تسعى في تعظيم مكاسبها وفي تحويل المشرق إلى ساحة نفوذ و”مجال حيوي” لدورها الإقليمي، وهي من أجل ذلك تتبع وسائل وتكتيكات عديدة، من بينها بناء كيانات موازية وميلشيات تابعة لها (إيران)، ومحاولة بسط نفوذها على مناطق حدودية بقوة هذه المليشيات (تركيا)، لكنها ليست صدفة أبدا، أن يتصدر كل بيان صدر ويصدر عن مساري أستانا ـ سوتشي، تأكيدات متكررة على التزام “الثلاثي الضامن” لهذين المسارين، بوحدة سوريا وسيادتها واستقلالها.
ومع إن كثير من هذه الالتزامات والتعهدات، تبدو حبرا على ورق، بل ولا تستأهل الحبر الذي كتبت به، إلا أنها مع ذلك، تظل “سقفا” و”مرجعية” للأطراف المنخرطة في الأزمة، وثمة ما يشي على أن هذا التوجه سيحكم أي اتفاق أو تفاهمات إقليمية ودولية حول “الحل السياسي النهائي” للأزمة السورية.
والخلاصة التي يخرج بها المراقب عن كثب للتطورات والتحولات التي طرأت على المشرق العربي خلال العشرية الفائتة، يخلص إلى نتيجة مفادها، أن مئة عام على سايكس ـ بيكو والدولة الوطنية العربية المعاصرة، لم تذهب هباء، وأن الخطوط التي رسمها كل من البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا بيكو، كانت أقوى من هبوب رياح التقسيم والتشظي، وأن مئة عامة مرت، كانت كافية لكي تضرب هذه الخطوط والخرائط، عميقا في جذور هذه المنطقة وبنيانها السياسي.
وسيكتشف جيل الستينيات والسبعينيات من أبناء هذه المنطقة، بأن الاتفاقية التي طالما هتفوا ضدها في شوارع مدنهم وميادينها، ولطالما حمّلوها مختلف أوزار ضعفهم وتخلفهم، هي ملاذهم الأخير، وهي ضمانة استمرار هويتهم ودولتهم الوطنية، وأن الاحتفاظ بها والحفاظ عليها، بات مطلبا ملحا، وأولوية لا تتقدم عليها أية أولوية أخرى… وتلكم واحدة من سخريات القدر ومفارقات التاريخ.
الحرة