أقلام يورابيا

حين يجنح قطار الشعر

أدهم عامر

أصبحت أتحاشى قراءة ما يُصِرُّ أصحابه على تسميته شعراً، لكثرة الرضوض والخدوش التي تصيبني حين يجنح قطار ” الشعر ” عن سكة الإبداع، بعد قراءة أول ثلاث أو أربع كلمات  ..

 

مشكلة ” الشاعر ” -السائق – ومصيبتنا نحن القُرّاء المساكين، هي أن الخدوش والجروح لا تطاله، لأنه معزول ومُحصّن في كابينة الأوهام التي حبسه فيها جمهور من المصفقين المنافقين الذين يساهمون في تضليل أنصاف الأُدباء، وأرباع الكُتَّاب، وفراطة الشعراء، فيرضعونهم وهم التميز صافياً .

 

الشعر يا اخوان حيوان برّي جامح، لا يطوعه أي عابر..

اللغة يا سادة مادة شديدة الإنفجار، تتربص بكل من يتجرأ على اللعب بفتيل الحروف، فتُحيل معظمهم حُطاماً، و لا يسلم منها إلاّ القلّة القليلة، بحكم الموهبة ..

الموهبة، ليس إلاّ ..!.

 

حذاري حذاري من مدائح ( المعجبين ) على ما تسمونه شعراً

لو تعلمن بأن ( جمهوركن ) سيعاني من آثار الحصبة لشهور، إذا ما ارتطم أحدهم صدفة ( ببيت ) للمتنبي، أو بقصيدة للبحتري.

هل تعلمين يا سيدتي بأن زخّات المدائح و ( اللايكات ) التي تنهمر على تنكيلك، وتمثيلك بجثة اللغة التي تسقط صريعة دائماً تحت حوافر و سنابك بنات أفكارك، ليست سوى تحرشات جنسية صرفة من تنابل مغمورين حتى أقراط آذانهم بخليط كثيف من التستوستيرون وشُح المعارف، ومعظمهم لا يميزون بين ( قرض )الشِّعر، و ( قرط ) الشَّعير !.

 

نتلقف نحن العرب، اختراعات الغرب بحماسة شديدة، وسرعان ما نتورط بالإنزلاق في الأعراض الجانبية “للتقانة ” فمعظمنا تحول بقدرة قادر عبر وسائل التواصل الإلكتروني إلى أدباء أو شعراء، …. نعم، هكذا ..! ، بكل بساطة ودون عناء ..كيف لا ؟ والمنبر مُتاح دون حراسة أو رقابة، و معظم الجمهور الذي يُكثر من المدائح، لا يُميز بين الغث والسمين، وبعضه الآخر ينافق على مبدأ ( حِك لي، لحِك لك ) وبالتالي فهو لا يكترث لتبعات هذا الإستسهال الذي عمّ واستشرى كأحد نواتج الانحطاط، فعندما يفسد التعليم، يتخلخل التحصيل، فتفسد الذائقة ويصبح ( الجدي بسعر إمو ) ويمسي اسم زرياب مثلاً، لقباً لمعلم كباب، صدف أن ربح الجائزة الكبرى، فحشد حوله الحشود على اعتبار أنه ملك القدود.

 

فى صيف عام 1952 تعاقد عبد الحليم حافظ مع أحد متعهدي الحفلات للغناء على المسرح القومي بالإسكندرية لمدة شهر، وما إن بدأ حليم يغنى كلمات الشاعر سمير محجوب ولحن محمد الموجي أغنية “صافينى مرة” حتى امتعض الجمهور و رشقه بالطماطم، وطالب بإنزاله من المسرح، لأن هذا الجمهور كان معتاداً على ” وقار “محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، و رأى الأغنية دون المستوى الذي تعود عليه، وألغى المتعهد العقد، وخرج  عبد الحليم من المسرح، وظل يبكى طوال الليل.

لا أقول بأن الجمهور كان محقاً، لكني أردت التنويه إلى هذه الحادثة كمثال.

 

لا أدّعي امتلاك وصفة سحرية لعلاج هذا الخلل، فهو ليس سوى حجرٌ من أحجار ” الدومينو ” التي تتساقط تباعاً بتأثير تخلخُل وتساقط ما قبلها من أحجار، بمعنى؛ أنك إن أردت أن تبحث عن سبب المشكلة، عليك بالعودة إلى أساسها، وهذا يذكرني بالإفتتاحية الشهيرة لمقالة ( حسني البورظان ) و تشتيت  ( غوار ) الدائم له،  – غوار هنا يرمز إلى مشاكل الحياة وتفاهاتها اليومية – التي تبعد حسني عن محاولاته الحثيثة لمعرفة ما يحدث في إيطاليا عن طريق معرفة ما يحدث في البرازيل، فتمضي الحياة دون أن يعرف ما حدث في البرازيل، ولا ما حدث في إيطاليا.

و هكذا، وعلى نفس المنوال.. تمضي الحياة بنا جميعنا متأرجحة بين المأمول والمتاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق