السلايدر الرئيسيتحقيقات

قراءةٌ جدليّةٌ في أزمة الثقافة الجنسيّة عند العرب: من لوحة راكيل والش إلى فستان رانيا يوسف!

جمال دملج

ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ على رغم أنّ المفكِّر السوريّ الراحل بو علي ياسين كان قد استفاض منذ ما يزيد عن خمسةٍ وأربعينَ عامًا من الزمان في شرح آليّات التطوُّر التاريخيّ لتأثير الدين والجنس في مجرى الحياة الإنسانيّة على كافّة الأصعدة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، مقدِّمًا لنا في كتابه الشهير الصادر عام 1973 تحت عنوان “الثالوث المحرَّم – دراساتٌ في الدين والجنس والصراع الطبقيّ” خلاصة النتائج التي توصَّل إليها بعد مراجعةِ بحوثٍ ومقارباتٍ لكبار المفكِّرين والعلماء السابقين من أمثال فريدريك إنجلز وكارل ماركس وغريغور ماندل وكريستوف روتمان وسيغموند فرويد في ثلاثةِ مجالاتٍ مرتبطةٍ ببعضها البعض، بدءًا من نشوء وتطوُّر الأديان، مرورًا بتجلّيات الحاجة الجنسيّة ما بين الحرّيّة وما بين الكبت، وانتهاءً بدور الجنس في تأجيج الصراعات الطبقيّة أو في الحدِّ من تداعياتها، فإنّ مجرَّدَ التمعُّن بالعيْنِ المجرَّدةِ، وبكلِّ تجرُّدٍ، في واقعنا العربيّ المأزوم باضطرادٍ جرّاءَ الإصرارِ الممنهَجِ على إبقاءِ المحرَّميْن الأساسيّيْن، أيْ الدين والجنس، ضمن نطاق التابوات المحصَّنة بخطوطٍ حمراءَ يصعُب على الإنسان العاديّ ملامستها أو حتّى الاقتراب منها، لا بدَّ من أن يكون كافيًا في الوقت الراهن لكي يؤكَّد على ما بات في حُكم المؤكَّد عن أنّ أمراض الانفصام المتفشِّية في المجتمعات الذكوريّة جرّاء الخشية من معالجة عوارضها بأساليبَ علميّةٍ، سواءٌ داخلَ مرمى تُهَمِ الإلحاد والإباحيّة أم خارجَه، كان لها بالغ الأثر في التسبُّب بتراجُع مكانة المرأة عبْر العصور من منزلة المساواة الحقَّة في سياق مجرى العلاقة الجنسيّة مع الرجل إلى منزلة الاستعباد والتبعيّة، تمامًا مثلما كان لها بالغ الأثر أيضًا في التسبُّب بتحوُّلِ إيقاعِ غريزة سدِّ الحاجة الجنسيّة عند الطرفين من طوْر الحرّيّة المطلَقة إلى طوْر الكبت الشخصانيّ النسبيّ.

ذئاب لا تأكل اللحم

وإذا كان اثنان لا يختلفان على أنّ كلَّ مجالٍ من المجالات الثلاثة الآنفة الذكر يصلُح بحدِّ ذاته لكي يشكِّل منهجًا مستقلًّا لبحوثٍ متكامِلةٍ تملأُ مجلَّداتٍ ضخمةً من الكتب التثقيفيّة الهادفة التي يحتاج إليها الإنسان العربيّ، على شاكلة كتاب بو علي ياسين، فإنّ اثنين لا يمكن أن يختلفا في الموازاة أيضًا على بديهيّةٍ مؤدّاها أنّ العوامل ذات الصلة بتأثيرات حضور الخطاب الدينيّ الإسلاميّ بفاعليّةٍ في المجتمعات العربيّة منذ سبعينيّات القرن العشرين وحتّى يومنا الراهن، معطوفةً على اتّخاذ هذا الخطاب منحىً تصاعُديًّا لصالح مفاهيم التطرُّف على حساب مفاهيم الاعتدال، هي التي جعلت أزمات الدين والجنس والتفاوُت الطبقيّ تتفاقم باضطرادٍ يومًا بعدَ يومٍ من السيّىء إلى الأسوأ، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة، على سبيل المثال وليس الحصر، أنّ شراسة ردود الأفعال على ظهور الممثِّلة المصريّة الراحلة ناهد شريف عاريةً تمامًا أمام الممثِّل المصريّ القدير عزّت العلايلي في فيلم “ذئاب لا تأكل اللحم” لمخرجِه اللبنانيّ سمير خوري عام 1973 لم تصِل إلى حدِّ شراسة ردود الأفعال التي أثارها ظهور الممثِّلة المصريّة الخجولة رانيا يوسف بفستانٍ مصمَّمٍ على طرازٍ عصريٍّ ويتناسَب تمامًا مع أجواء الحفل الذي ذهبت لحضوره في إطار فعاليّات مهرجان القاهرة السينمائيّ عام 2018، الأمر الذي يُعبِّر بوضوحٍ عن مدى التبايُن الهائل في النظرة التقييميّة للفنّ السابع بين جيليْن لا يفصُل بينهما أكثر من أربعةِ عقودٍ ونصفِ العقد من الزمان.

غريزة شارون ستون الأساسيّة

ومع الأخْذِ في الاعتبار أنّ ردود الأفعال على “ذئاب لا تأكل اللحم” كانت تحتمِلُ في حينه الأخْذَ والردَّ نظرًا لأنّ الفيلم جاء في سياقِ نقلةٍ إنتاجيّةٍ سريعةٍ وغيرِ مدروسةٍ استهدَفت “عَصرَنة” السينما العربيّة لتتماشى مع روحيّة أفلام الغرب الأميركيّ والأوروبيّ عن طريق “تقليد” اللقطات ذات الإيحاءات الجنسيّة من دون أيِّ تمهيدٍ نفسانيٍّ مسبَّقٍ يُراعي ما يمكن وصفه مجازًا بـ “عُقَد الخصوصيّات الدينيّة” في المجتمعات المستهدَفة لتقبُّل هذا النمط من اللقطات، ناهيك عن أنّها سبَقت بأشواطٍ عديدةٍ جُرأة تلك اللقطة الشهيرة للممثِّلة الأميركيّة شارون ستون التي أبهرَت فيها المشاهدين بفتْحِ فخذيْها لثوانٍ معدودةٍ أمام زميلها مايكل دوغلاس وغيره من لاعبي أدوار المحقِّقين الأميركيّين في فيلم “غريزة أساسيّة” المنتَج عام 1992، فإنّ الأمر الذي لا يُفترَضُ أن يَخضَع لمزاجيّةِ الأخْذِ والردِّ في الوقت الراهن يتمثَّل في وجوب الاعتراف يقينًا بأنّ غياب النظرة النقديّة البنّاءة للفيلم المصريّ المذكور، ولما تلاه وقتذاك من أفلامٍ عربيّةٍ مشابِهةٍ أُنتِجَت في سبعينيّات القرن الماضي مثل “قطط شارع الحمرا” أو “الأستاذ أيّوب”، هو الذي تسبَّب إلى حدٍّ كبيرٍ في تكوين الفجوة الانفصاميّة الشاسعة ما بين مشروعيّة الاشتهاءات المحرَّمة وما بين إرهاصات الرغبات الدفينة في مجال تقييم جماليّة الجسد الأنثويّ المتعرّي من أيِّ ورقةِ تينٍ في الأوساط الذكوريّة الإسلاميّة – العربيّة، ولا سيّما إذا أضفنا إلى ما تقدَّم ذكره أنّ هذا الغياب سرعان ما أدّى إلى إفساح المجال أمام انتشارِ شطحاتٍ سينمائيّةٍ غريبةٍ ومضحِكةٍ مثل ظهور الممثِّلة المصريّة الراحلة مديحة كامل في لقطةٍ من لقطاتِ فيلم “الجحيم” بينما كانت تستحمُّ تحت الدوش بملابسها الداخليّة.

راكيل والش وسيلفادور دالي عام 1965

بين سيلفادور دالي وراكيل والش

هذا الكلام، وإنْ كان لا ينطوي على أيِّ نيّةٍ مبيَّتةٍ للقفز فوق المسلِّمات القيَميّة التي تستوجبها شروط الالتزام بتعاليم الدين الإسلاميّ الحنيف، ولا سيّما بعدما قُدِّر لي أن أتعرَّف شخصيًّا عن قُربٍ على الممثِّلة المصريّة المحترَمة شمس البارودي وزوجها الرائع حسن يوسف (أبو علي) أثناء قيامهما بدور البطولة في فيلم “شاطىء الحُبّ” بمعيّة المخرج اللبنانيّ أنطوان ريمي على ساحل مدينة الدامور جنوبَ بيروت عام 1974، قبل أن تقرِّر اعتزالَ السينما وارتداءَ الحجاب عام 1982، ولكنّ الغرَض من وراء إسقاطه في هذه العجالة يتمثَّل في وجوب التنويه بأنّ جماليّة اللوحات الفنّيّة التي رُسِمَت على مرِّ التاريخ لأجساد الممثِّلات العربيّات الآنفات الذكر وغيرهنّ من الفنّانات اللواتي قُدِّر لهنّ المساهَمة في تسطير التاريخ العربيّ بأبهى ألوانه، سواءٌ باللقطات السينمائيّة المصوَّرة أم بأقلام الرصاص وبريَش التلوين، بقيت في نهاية المطاف، على غرار اللوحة الشهيرة التي رسَمها أبو السورياليّة الإسبانيّ سيلفادور دالي لأمِّ الفنّانات الاستعراضيّات الأميركيّات راكيل والش يوم العشرين من شهر شباط (فبراير) عام 1965، أيْ بعد مرورِ أقلَّ من عامٍ واحدٍ على بدء مسيرتها الفنّيّة، منزَّهةً عن خطايا المسِّ بها بناءً على نزعاتِ شيطنةٍ مريبةٍ، الأمر الذي يُفترَض أن ينطبِق تمامًا على اللوحة المبهِرة لفستان رانيا يوسف المصمَّم على طرازٍ عصريٍّ ينهَد للارتقاء بالعربيّة إلى العالميّة، حتّى ولو أنّ الظلاميّين ظنّوا أنّه “يُجسِّدُ ارتكابًا للفعل العلنيّ الفاضِح، وتحريضًا على الفسق والفجور والإغراء ونشر الرذيلة التي تخالف الأعراف والتقاليد السائدة فى المجتمع المصريّ”، وفقًا لفحوى الادّعاءات الاتّهاميّة التي من المقرَّر أن تنظُر فيها محكمةٌ مصريّةٌ في أولى جلساتها حول القضيّة يوم الثاني عشر من شهر كانون الثاني (يناير) الجاري… وحسبي أنّ تهمةَ ارتكابِ الفعل الفاضِح ستبقى مطبوعةً على جبين المحكمة المذكورة اعتبارًا من الآن وحتّى إشعارٍ آخَر إذا ما قرَّرت عدم الاعتذار من رانيا يوسف على مجرَّد استدعائها للنظر في التُهم الموجَّهة إليها… والخير في استحضار ما قاله بو علي ياسين قبل خمسةٍ وأربعينَ عامًا حول تراجُع مكانة المرأة تحت وطأة ثالوث الدين والجنس والتفاوُت الطبقيّ المحرَّم من وراء القصد.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق