د . مهيب صالحة
تستحق سوريا الحياة . ويستحق السوريون أن يكونوا الأفضل، لقد كانوا حتى خمسينيات القرن الماضي الأفضل في المنطقة الممتدة من الهند شرقاً حتى المملكة المغربية غرباً، ولكنهم صاروا، بعد حكم الاستبداد، الأسوأ وفق جميع التقارير الدولية القياسية، التي تعتمد معايير علمية وموضوعية للتمييز بين الدول ومستويات تطورها وتحضرها في مسائل الشفافية والفساد والديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والتنمية البشرية والتنمية الاقتصادية وجودة التعليم والبيئة.. لقد كان قادة العالم ينبهرون بسوريا إذا قدموا إليها زواراً .
ولم تتغيب سوريا رغم انقلاباتها العسكرية المتكررة لأن فيها يومذاك سياسيون بارعون لم تنقصهم الوطنية في المواقف المفصلية والمنعطفات الحادة، عندما ضاقت عليه السبل في حكم البلاد آثر الرئيس أديب الشيشكلي، الذي قاد انقلابين عسكريين، الرحيل عوضاً عن اللجوء إلى السلاح وشق صف الجيش والمجتمع، وفي المقابل عندما هاجم الجيش السوري جبل العرب بأوامر من الشيشكلي وحاصر القريا معقل قائد الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي آثر قائد الثورة سلطان باشا الأطرش الرحيل إلى الأردن كي يتجنب مقاتلة جيش بلاده، وآنذاك ثارت ثائرة مدينة حماه الأبية مسقط رأس الشيشكلي وعزوته على تصرفه، فكانت بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر الدكتاتور وعجلت برحيله.
لقد كان في سوريا أكثر من سبعين صحيفة وبرلمان وأحزاب وانتخابات حرة، وجامعتاها ومدارسها من أفضل الجامعات والمدارس في المنطقة، وموائدها تعمر بما لذ وطاب من خيراتها وخبزها الطازج الساخن الذي لا مثيل له، وغوطة دمشق التي تغنى الشعراء بجمال خضرتها وسحر أنهارها وعليل نسماتها، وأوابدها التي تشهد على حضارات العالم التي تعاقبت عليها..
سوريا تلك لم تكن تخلو من المشاكل والخلافات والتناقضات، ولم تسلم من الإعتداءات والصراعات عليها في مرحلة التغيرات الدولية الاستقطابية وتنازع مصالح الدول العظمى في منطقة الشرق الأوسط التي سوريا هي قلبها وروحها، ورغم ذلك لم يحتكم السوريون، لا النظام ولا الشعب، آنذاك للسلاح لحل المشكلات ومواجهة التناقضات، وكانوا بعد كل انقلاب عسكري يعودون إلى مؤسساتهم السياسية ـ البرلمان والحكومة والصحافة والأحزاب والنقابات ـ يتجادلون فيها في أمورهم ومشاغلهم مثلهم مثل أية دولة متحضرة الحوار في المؤسسات وسيلتها الوحيدة لمواجهة معضلاتها وخلافاتها ومشكلاتها، وحتى الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات كانت تدار بالحكمة والإتزان.
لقد حصلت أول عملية قتل عمد تحت التعذيب لسجين سياسي في سجون سوريا زمن الوحدة بينها وبين مصر ـ الشهيد فرج الله الحلو أحد قادة الحزب الشيوعي السوري ـ وذوب الجلادون جثمانه الطاهر بالأسيد لإخفاء جريمتهم ضد الإنسانية.
في سوريا التي يغلب على شعبها الطابع الديني يفوز في انتخاباتها البرلمانية عن عاصمتها دمشق، في سابقة لم تشهدها أية دولة عربية أو إسلامية، أول شيوعي هو الأمين العام للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش.
في سوريا كان السياسيون ورجال الدولة ينفقون على السياسة وعلى الدولة من جيوبهم، ولم يكن يسمح لنفسه حتى شرطي المرور أخذ رشوة من مخالف لقانون السير، ولم نسمع قط عن ولادة المليونيرية والملياردية إلا منذ منتصف السبعينات، وكانت شركات سوريا وصناعها وحرفيوها يصدرون منتجاتهم عالية الجودة إلى أوروبا وغيرها .
ماذا يمكن أن يضيف المرء عن دولة استقلت مع غيرها من الدول المستعمرة بعيد الحرب العالمية الثانية وفي وقت قصير أظهرت ميزاتها النسبية عن الدول الأخرى وخاصة مواردها البشرية والتنظيمية والإدارية والجمالية، وسلوك طريق التطور الطبيعي الذي لو استمر، دونما قطع مع الوحدة 1958 ومن ثم مع البعث 1963، لكانت المعجزة السورية سبقت معجزة الصين والهند وماليزيا وكوريا الجنوبية وغيرها.
رب قائل: لن يسمح الغرب لها بسبب إسرائيل . إن هذا النمط من التفكير تبريري ويدعو إلى اليأس والخنوع وهو من صنوف القدرية التي تكبل يد الإنسان وتلغي عقله وتفكيره وتدبيره . سورية كان فيها كل مقومات الدفاع عن مشروعها الحضاري بفضل شعبها المتيقظ التواق للتطور، ونظامها المرن المتجدد، وتناقضات الحرب الباردة في عالم ثنائي القطب.
ودون الخوض في التفاصيل فإن الدور الفظيع الذي لعبه النظام الشمولي الاستبدادي في حرف مسار تطور سوريا الطبيعي جعل السوريين الأسوأ بعدما كانوا الأفضل، فمن الطبيعي أن يختلف الناس حول إدارة حياتهم، ولكن ليس من الطبيعي في هذا الزمان أن يحتكموا للسلاح لحسم خلافاتهم لأن السلاح لا يعكر صفو الحياة وبهجتها فحسب بل خلف مئات آلاف الضحايا وملايين اللاجئين والنازحين وتدمير أكثر من مليون منزل وشقة سكنية ودمار البنية الأساسية في معظم المدن والبلدات، وتكلفة تجاوزت تريليون دولار، وتهتك النسيج الاجتماعي ومسخ الذات الوطنية، إن سوريا تستحق الحياة لأنها تملك كل مقوماتها.
ولكن الاحتكام للسلاح الذي بدأه النظام في آذار 2011 ضد الاحتجاجات الشعبية السلمية لتطويع الناس وإعادتهم إلى حظيرته بالقوة دفعهم إلى الثورة، ومن ثم سرقة الإسلامويين لهذه الثورة وعسكرتها، ورفع سقفها من التغيير الديمقراطي السلمي إلى إسقاط النظام ـ أخذ سوريا إلى المكان الذي تتصارع فيه مصالح الدول الإقليمية والعظمى ومراكز القوى الداخلية، من جميع الأطراف المتقاتلة، التي لا يهمها سوى مصالحها الشخصية أو الفئوية.
إن الدولة الشمولية الاستبدادية تتماهى فيها الدولة والنظام والسلطة والحكومة والمؤسسات والحزب الحاكم والفرد القائد إلى حد التطابق، وبالتالي سقوط أي منها دراماتيكياً يؤدي إلى سقوطها كلها “ليبيا على سبيل المثال” لذلك فإن تمسك كلا الطرفين، النظام والمعارضة، بسقوفهما العالية هو بالشكل نزعة إنتصار لكنه في الجوهر نزعة لهزيمة وطن بجميع مفرادته.
من منا لم يخطئ؟ الكل أخطأ أفراداً وجماعات، ولكن الخطيئة الكبرى التي أبقت على سوريا دولة متخلفة يتحمل مسؤوليتها حزب البعث والسلطات والحكومات المنبثقة عنه وكل الأحزاب السياسية التي تحالفت معه وغطت سياساته.
إن سوريا تمر الآن بلحظات حاسمة من تاريخها ويتوقف عليها مستقبلها، إنها على مفترق طرق، إما أنها تسلك طريق خلاصها الحقيقي وتعود إلى سياق تطورها الطبيعي أو تسلك طريق استلابها من طغم خارجية وداخلية، وفي كلا المسلكين الأمر متوقف على خيار السوريين، فإما أن يسلموا زمام أمرهم للخارج تحت أية مسميات، أمم متحدة أو دول عظمى أو إقليمية، وبالتالي تتقاسمهم المصالح الدولية، وإما يحتكمون لعقلهم الجمعي الذي لا يتبلور إلا بحوار وطني جاد ومنتج، وبالتالي كل من يعارض أو يرفض مبدأ الحوار سيكون شريكاً للطغم الخارجية والداخلية التي ستستلب سوريا وتهمشها.
لا بديل عن السلاح سوى الحوار والكلمة الحرة الجادة والمثمرة، ولكن للحوار أصول وقواعد، فلا يمكن أن يكون الحوار بين سلطة تمتلك كل وسائل القوة ومواطنين أو مجموعات لا يملكون سوى إرادتهم المجردة من أية قوة إلا إذا نزلت السلطة إليهم مجردة من كل وسائل قوتها.
ولا يكون أيضاً بين أطراف متشابهة ومتفقة في الموقف والرؤية إنما يكون بين أطراف مختلفة وفي الوقت نفسه متساوية وتمثل جميع مكونات الشعب السوري السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والأثنية والأهلية والمدنية.
وقرار الدعوة للحوار قرار سيادي وهو من مسؤولية رئيس الجمهورية لأنه وحده أقسم اليمين الدستورية على صون وحدة وسلامة وسيادة سوريا وشعبها، والتاريخ لن يحاسب أحداً سواه لو حصل أي تفريط بهذه الأيقونات.
إن الحلول التي تأتي من الخارج لن تكون إلا على مقاس مصالح الخارج فلا قرارات جنيف ولا اتفاقات وتفاهمات أستانا ستعطي السوريين حلاً وطنياً، إنما وحده الحوار الوطني من ينتج الحلول الوطنية . فجميع القرارات والتفاهمات الدولية عُمِلَت أصلاً لكي لا تنفذ ولكي تطيل من عمر المحنة السورية.
تجري في الآونة الأخيرة حوارات جزئية سواء باللقاءات بين حزب البعث عن النظام والسلطة وفعاليات مختلفة من المحافظات عن المعارضات والمستقلين، أو بين قوى سياسية تمثل الخيار الوطني الديمقراطي والتغيير السلمي (الحوار السوري ـ السوري في عين عيسى، المؤتمر الوطني الديمقراطي السوري، الجبهة الوطنية الديمقراطية).
إن مقاطعة قوى التغيير الديمقراطي مثل هذه اللقاءات والحوارات يضر، برأيي، أكثر مما تفيد المشاركة فيها طالما لا توجد وسيلة أخرى غير العنف الذي قاد البلاد والعباد إلى التهلكة.
أكثر من ذلك من المفترض أن تتداعى القوى الديمقراطية كلها لحوار شفاف فيما بينها لعلها توحد خطابها السياسي وتوحد نضالها السلمي في سبيل التغيير الديمقراطي، والضغط من أجل البدء بحوار وطني، ومما لا شك فيه أن المشاركة الإيجابية والفعالة في هذه اللقاءات تخدم الحوار الوطني إلا أنها لا تحل محله وليس بمقدورها إنجاز ما يمكن أن ينجزه.
إن الحوار الوطني هو عملية تفاعلية، وجهاً لوجه، بين الأشخاص والآراء والمواقف والمصالح والهواجس، يتوقف نجاحه على توفر الإرادة الحرة المستقلة، وصدق النوايا والإلتزام بآداب الحوار، وانتهاج العلمية والمهنية في عرض المواقف، ووضوح الرؤية، ونزاهة الأهداف، والحرص على المصلحة الوطنية، يتوخى المتحاورون منه التوصل إلى توافقات وطنية تنهي المشكلة وترسم خارطة طريق للمستقبل.
والحوار الوطني عملية تنظيمية معقدة تتطلب إجراءات اشتراعية وتنفيذية وموارد مالية، وإلى هيئة مستقلة تعنى فقط بتنظيم الحوار الوطني وتكون حيادية وتقف على مسافة واحدة من جميع المتحاورين، وتمتلك حرية التحرك في جميع المناطق السورية وفي مناطق الشتات لدعوة ممثلين إلى الحوار عن جميع خيارات السوريين.
أما سبل الحوار الوطني فهي :
1ـ البرلمان.
2 ـ لقاءات مغلقة أو مؤتمر في العاصمة أو في دولة مضيفة.
3 ـ لقاءات مفتوحة عبر وسائل الإعلام.
4 ـ الندوات واللقاءات والمناظرات المنتظمة التي تنتج توصيات تستفيد منها أطراف الحوار.
وبالنظر إلى استحالة إجراء الحوار الوطني في مجلس الشعب السوري بسبب أحاديته وسيطرة طرف السلطة عليه، وعدم ملاءمة اللقاءات المفتوحة عبر وسائل الإعلام والندوات والمناظرات بسبب كون الحالة السورية معقدة وتحتاج إلى توافق عام أو شبه عام من كافة مكونات الشعب، لا يبقى سوى مؤتمر للحوار الوطني في عاصمة كل السوريين دمشق وبرعاية أممية وضمانات من الدولتين العظميين، أو في دولة مضيفة محايدة، أو في مقر الجامعة العربية في القاهرة . كما أن أي حوار إذا لم يرتبط بجدول زمني محدد ومحاور معينة يخشى أن يتحول إلى جدل بيزنطي لا طائل منه في حين تلح المسألة السورية على الجميع لإنتاج توافقات وطنية تنمي الإنتماء الحقيقي للوطن والتنافس في خدمته والتضحية من أجله.
إن أي حوار بين أطراف احتكمت إلى السلاح لن يكون منتجاً إلا إذا قام على قاعدة المصارحة والمصالحة والمسامحة والعدل بما يضمن حق ضحايا العنف بالاعتراف بحقوقهم وجبر الضرر الذي لحق بهم، وليس سوق متهمين إلى الموت أو السجن.
ومن شأن الحوار أن يفتح صفحة جديدة، ويؤسس لنمطيات تفكير مرنة ومتجددة تقبل بالآخر المختلف، وتنظر إلى مفردات الحياة التي تستحقها سورية، ومفردات الإرتقاء بالسوريين نحو الأفضل، كونها متغيرات وليس ثوابت أو يقينيات تتحكم بعقول السوريين عوضاً عن أن تتحكم عقولهم بها .
أن الحوار الوطني والكلمة الحرة يحرران العقول ويريحان النفوس ويخلقان مساحة رحبة من التفكير والتبصر تنتصر فيهما الوطنية السورية على ما عداها.
أما غياب الحوار الوطني والكلمة الحرة، بعد أن فعل السلاح كل ما فعل من خراب ودمار ودماء، فلا معنى له سوى الانتقال إلى مرحلة جديدة من العنف تستكمل استنزاف ما تبقى من وطن جريح، وربما تقسيمه بين حدي الجغرافية والنفوذ.
عندئذِ أي حديث من أي كان عن انتصار موهوم لن يكون له أي معنى على المستوى الوطني لأن الكل في حساب الربح والخسارة هو خاسر . كما أن تنحية خيارات الشعب السوري من أية تسوية يرعاها الخارج ما هو سوى تواطؤ فاضح على المصالح الوطنية العليا لحساب مصالح دولية أو إقليمية أو فئوية داخلية لن يأخذ منها الشعب السوري سوى قبض الريح.
كاتب من السويداء