بابكر فيصل
من المُتحدَّث يا تُرى، شيخ الأزهر أم مونتسكيو؟ تساؤل جال بذهني لبضع لحظات وأنا أستمع لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب في العشرين من حزيران/يونيو 2011 وهو يتلو بنود وثيقة الأزهر الشريف بشأن مستقبل مصر بعد الثورة، تلك الوثيقة التي رأى فيها البعض نقلة نوعية بالغة الأهمية ليس في تاريخ المؤسسة الدينية العريقة الساعية لاستعادة دورها الريادي كمنارة إسلامية كبرى فحسب، ولكن في مسار عملية التنوير الهادفة لإنجاز الانتقال التحديثي الذي تتطلع إليه شعوب العالمين العربي والإسلامي.
تضمنت الوثيقة العديد من المبادئ التي كانت ثمارا لعصر الأنوار الأوروبي واعتقد الأزهر أن من شأنها ضمان مستقبل أفضل لمصر وللمصريين، حيث أكدت بنود الوثيقة على الدولة المدينة الدستورية، ومبدأ الفصل بين السلطات، واعتماد النظام الديمقراطي والالتزام بالحريات والاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، ومبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية في المجتمع وتطبيق العدالة الاجتماعية والاهتمام بالتعليم والبحث العلمي وغيرها من المبادئ.
الآن، وبعد مرور أكثر من سبع سنوات على إصدار الوثيقة ما يزال الأزهر يراوح مكانه ولم يقو على التمسك بالمبادئ السامية التي نادى بها في وثيقته. فالنظام العسكري عاد ليُحكم قبضته على مصائر الناس، والمثقفون والمعارضون يملؤون السجون، والمحاكم لا تزال تقاضي المفكرين بتهمة ازدراء الأديان، وسيف التكفير ما انفك مسلطا عليهم من قبل الأزهر ومشايخه، كما أن معاهد الأزهر لما تزل تُدرس فقه العصور الوسطى الذي يضطهد غير المسلمين ولا يعترف بحقوق المواطنة.
التنوير ليس أمرا بسيطا يتنزل بمجرد إصدار وثيقة، بل هو عملية طويلة لها متطلباتها النابعة في الأساس من تعريف التنوير نفسه. فإذا كان الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” قد عرَّف التنوير بأنه تحرر الفرد من الوصاية وقدرته على استخدام عقله بحرية ودون توجيه من أي طرف، فإن الأزهر بوضعه الحالي يمثل أحد تجليات أزمة العقل العربي المسلم الذي ظل يعاني من الوصاية منذ قرون طويلة ولم يبلغ سن الرشد بعد!
يفرض التقليد الديني الموروث في المجتمعات العربية والإسلامية وصاية كاملة على العقل المسلم، ذلك لأنه ـ كما يقول علي مبروك ـ يجبر العقل على التعامل مع النص/القرآن ليس على أنه نقطة ينطلق منها الوعي إلى فهم العالم والتأثير فيه، بل بوصفه سلطة لا بد من الخضوع لها، وبالتالي فإن هيمنة تلك السلطة لا تترك مجالا للعقل للتفكير دون توجيه.
وإذا كانت المشكلة متعلقة في الأساس بذلك التراث الديني الذي يكبل العقل ويهيمن عليه، فإن عملية التنوير لا بد أن تبتدئ من نقد ذلك التراث والسماح بتفكيكه دون محاذير أو قيود سوى تلك التي تؤدي إلى تجديد العقل.
لا شك أن الأزهر كمؤسسة دينية ذات أثر كبير لعب دورا مهما فيما آل إليه العقل الإسلامي من جمود، حيث ظل يعتنق ويروج للعقيدة الأشعرية التي هيمنت على ذلك العقل منذ عدة قرون، وهي العقيدة التي حاربت العقل وأعلت من شأن النقل وبلورت طريقة في التفكير تقوم على الاستدلال بالخبر وتعتبر النص أصلا لكل معرفة.
لم يقتصر الأثر السلبي للأشعرية في تعطيل دور العقل على قضايا العقيدة أو الأمور الفقهية بل امتدت إسقاطاته لتشمل كافة النواحي المعرفية والعلمية والسياسية والاجتماعية في المجتمعات العربية والإسلامية.
فعلى سبيل المثال، كرَّست الأشعرية على الصعيد السياسي الاستبداد واستمرار الظلم، وذلك عبر إنكارها لحرية إرادة الإنسان وفاعليته ودعوتها إلى الصبر على الحاكم ولو كان ظالما مستبدا. كما أنها عملت على تقويض العلم بنفيها لمبدأ السببية في ظواهر الطبيعة، وهو المبدأ الذي يمثل ركنا أساسيا من أركان العلم.
ومن ناحية أخرى، فإن الأشعرية تعتبر من أكثر المدارس العقائدية إقصاء وتكفيرا للخصوم الفكريين، وعلى وجه الخصوص المعتزلة والخوارج والشيعة، وهو الأمر الذي نجده في مؤلفات أعلام الأشاعرة مثل الشهرستاني والملطي وعبد القادر البغدادي وغيرهم.
بل إن التكفير لدى الأشاعرة بدأه مؤسس المذهب، أبي الحسن الأشعري، بعد تخليه عن فكر الاعتزال، حيث صعد إلى المنبر وقال: “اشهدوا عليَّ أني كنت على غير دين الإسلام. وأني قد أسلمتُ الساعة”، وهو ما يعني أن المعتزلة يعتبرون في نظره كفارا، مع العلم أنه اعتنق فكر الاعتزال حتى سن الأربعين من عمره.
قد عمل الأزهر وشيوخه طوال تاريخهم بالتقليد الأشعري في تكفير المفكرين، ودوننا في هذا الصدد ما صدر عنه بخصوص الشيخ علي عبد الرازق وكتابه “الإسلام وأصول الحكم”، وكذلك الدكتور طه حسين وكتابه “في الشعر الجاهلي”، فضلا عن تكفير العشرات من المفكرين الآخرين ومصادرة كتبهم.
من جانب آخر، نجد أن الأزهر لا يكتفي بتبني الأشعرية كمذهب في العقائد بل يحتضن المدرسة الشافعية كمرجعية في المسائل الفقهية، ومعلوم أن الأخيرة تعتبر المسؤول الأول عن وأد العقل الإسلامي وتقديم النقل عبر ترفيع شأن منظومة الحديث (السنّة) بكل ما يكتنفها من إشكاليات ووضعها في مقام يساوي، بل في أحيان كثيرة يتخطى النص التأسيسي (القرآن).
وكذلك تمثل منظومة أصول الفقه التي وضعها الشافعي بمصادرها الأربعة: القرآن، والسنة، والإجماع والقياس سببا رئيسيا من أسباب جمود العقل الإسلامي الذي ظل يدور في فلك تلك المصادر التي ما انفكت تجبره على الخضوع للنص بوصفه المصدر الأول والأخير للمعرفة.
يقول إيمانويل كانط في مقالته الأشهر “ما هو التنوير؟” إنه “ربما يمكن إنهاء استبداد فردي أو اضطهاد طغياني متعسف بالثورة، ولكن الثورة لن تجلب إصلاحا حقيقيا لأنماط التفكير. بل إن عصبيات جديدة ستستبدل القديمة وتقيد الجماهير غير المفكرة”.
وبناء عليه نقول إن الأزهر لن يستطيع إنزال وثيقته التنويرية إلى واقع الممارسة العملية إذا لم يقم بثورة تجديدية كبرى تعمل على تفكيك المكانة المركزية للمذهبين الأشعري والشافعي في البنية التي تقوم عليها المنظومة التي تؤسس للأفكار والمناهج التي تُدرَّس في مختلف المراحل بتلك المؤسسة الدينية الكبيرة، بحيث يتم الانفتاح على مدارس فكرية أخرى تعلي من شأن العقل وتفتح آفاقا واسعة للمعرفة والإبداع تمهد الطريق للخروج من حالة الجمود التي ظلت تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية منذ عدون قرون.
الحرة