السلايدر الرئيسيتحقيقات
قراءةٌ في أبعاد زيارة بوتين لصربيا: وجدانيّاتٌ… وعِبرٌ من التاريخ!
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ بصرف النظر عن كافّة الدلالات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة التي حملَتها زيارة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين لصربيا نهار أمس الخميس، وما ترافَق مع هذه الزيارة من استقبالٍ رسميٍّ وشعبيٍّ حافلٍ وحاشِدٍ للضيف القادم من بلادٍ لطالما شكَّلَت على مرِّ التاريخ إحدى الزوايا الأساسيّة لما كان يُعرَف حتّى الأمس القريب بـ “المثلَّث الأرثوذكسيّ الروسيّ – اليوغسلافيّ – اليونانيّ المقدَّس”، فإنّ أهمّيّة الدلالات الوجدانيّة لا بدَّ من أن تؤخَذ بدورها في الاعتبار بشكلٍ مفصَّلٍ لدى القيام بأيِّ محاولةٍ لتفسير أسرار الدوافع النفسانيّة التي تقف وراء كلّ هذه الحفاوة، ولا سيّما إذا أعدنا للذاكرة أنّ نجاح الولايات المتّحدة الأميركيّة في تدوير الزاوية الروسيّة خلال عهد الرئيس الراحل بوريس يلتسين الذي اتّسَم بالضُعف الشديد بين عاميْ 1991 و1999، سرعان ما سهَّل الطريق أمام الرئيس بيل كلينتون لتحقيقِ نجاحٍ مماثِلٍ في تدوير الزاوية اليوغسلافيّة من خلال الحملة العسكريّة الأميركيّة – الأطلسيّة المركَّزة التي استهدفَت الإطاحة بالرئيس الراحل سلوبودان ميلوسوفيتش بين الرابع والعشرين من آذار (مارس) والتاسع من حزيران (يونيو) عام 1999، وهي الحملة التي شُنَّت خلالها عشرةُ آلافٍ وأربعُمئةٍ وأربعٌ وثمانونَ غارةً جوّيّة بالتمام والكمال، والتي كان لا بدَّ من أن يتردَّد صداها تلقائيًّا في عُقر دار الاشتراكيّة الدوليّة في بلاد الإغريق، الأمر الذي أدّى بالتالي إلى الاستفراد بها وتدوير الزاوية اليونانيّة.
وإذا كانت آراء وتقديرات المؤرِّخين حيال تصنيف أهداف هذه الحملة العسكريّة ما زالت متبايِنةً ومحكومةً بتأثيرات البروباغندا الإعلاميّة الغربيّة التي رافقَتها على مدى أكثر من سبعةٍ وسبعين يومًا، فإنّ شهادات شهود العيان الذين قُدِّر لهم معايشة الوقائع الميدانيّة عن قربٍ، على غرار ما قُدِّر لي أن أفعلَه بين سكوبيا وبلغراد وبريشتينا منذ اليوم الأوّل وحتّى ما بعد اليوم الأخير، لا بدَّ من أن تساعِد في نهاية المطاف على تصحيح الخلل الذي أصاب موازين تقييم تلك الأهداف جرّاء استرسال الإعلام الغربيّ في قلبها رأسًا على عقب، ولدرجةٍ وصلَت إلى حدِّ تحويل الجزّارين إلى ضحايا، والضحايا إلى جزّارين، وهو التصحيح الذي سيؤدّي حتمًا إلى ترجيح كفّة الرذالة على كفّة النزاهة لدى الحديث عن أبعاد الحملة الأميركيّة – الأطلسيّة على يوغسلافيا عام 1999 من الألِف إلى الياء.
وعلى رغم أنّني كنت قد أشرتُ إلى العديد من هذه الأبعاد في مقالٍ سابقٍ كتبتُه لـ “” يوم الثامن عشر من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) العام الفائت على خلفيّة موافَقة البرلمان في بريشتينا على تشكيل جيشٍ وطنيٍّ كوسوفيٍّ، فإنّ التطرُّق إلى الجوانب الوجدانيّة في مجال العلاقات الروسيّة – الصربيّة، وعلاوةً على ما تقدَّم ذكره حول رمزيّة المثلَّث الأرثوذكسيّ المقدَّس، لا يمكن أن يأخذ حقَّه التوثيقيّ كاملًا من دون الرجوع إلى بعض الحقائق التي تجلَّت بوضوحٍ بين البلدين في خضمّ معمعة تداعيات الحملة الأميركيّة – الأطلسيّة، ولا سيّما أنّ الجزء الأكبر من هذه الحقائق بقي خارج نطاق التداوُل الإعلاميّ على مدى السنوات الطويلة الماضية، باستثناء كتابي الأوّل الصادر تحت عنوان “أصنام صاحبة الجلالة” عام 2013.
ولعلّ من بين أهمّ ما حدث وقتذاك هو أنّ رئيس صندوق النقد الدوليّ ميشال كامديسو لم يكد يُعلِن في اليوم الأوّل من شهر حزيران (يونيو) عام 1999 عن موافقته على منْح روسيا قرضًا ماليًّا بعد أكثر من خمسةِ أعوامٍ من التردُّد والانتظار، بذريعة الحاجة إلى ترسيخ المزيد من مفاهيم الديموقراطيّة على الساحة الروسيّة واتّخاذ المزيد من الإجراءات للانفتاح على سياسة السوق، حتّى حطَّت في مطار بلغراد طائرة موفد الكرملين إلى العاصمة اليوغسلافيّة فيكتور تشيرنوميردين بصحبة الرئيس الفنلنديّ في حينه مارتي إهتيساري، بغية تقديمِ خطّةٍ تتعلَّق بإنهاء الحرب الأميركيّة – الأطلسيّة التي كانت لا تزال على أشدِّها، تمهيدًا لتسوية الأوضاع في إقليم كوسوفو الذي كان لا يزال تابعًا للسيادة اليوغسلافيّة، وهي الخطّة التي ما لبث الرئيس سلوبودان ميلوسوفيتش أن حوَّلها إلى البرلمان، لتتمَّ الموافقة عليها بأغلبيّةِ مئةٍ وسبعةٍ وسبعينَ صوتًا مقابل مئةٍ وستّةٍ وثلاثينَ صوتًا وثلاثِ أوراقٍ بيضاء، ولتبدأ إثر ذلك المفاوضات التي أفضَت إلى التوقيع على “اتّفاقيّة كومانوفو” بين القيادتين العسكريّتبن اليوغسلافيّة والأطلسيّة يوم التاسع من الشهر نفسه، وهو اليوم الذي ما لبث ميشال كامديسو أن عاد وظهر فيه ليُعلِن أنّ موافقته على منح القرض لروسيا مشروطةٌ بالحصول على تعهُّدٍ خطّيٍّ من الرئيس يلتسين بأنّ القرض لن يُستخدَم في تطوير الصناعات العسكريّة الروسيّة.
وإذا كان ما تقدَّم كافيًا للدلالة إلى أنّ الولايات المتّحدة استغلَّت تسلُّطها على صندوق النقد لاستدراج روسيا إلى إبرام صفقة تمرير خطّة التسوية على اليوغسلافيّين، علمًا أنّ ما جرى لاحقًا في إقليم كوسوفو بُعيْد دخول “قوّات كي فور” يوم الثالث عشر من ذلك الشهر يتنافى تمامًا مع فحوى “اتّفاقيّة كومانوفو” التي ما زلتُ أحتفظ بنسخةٍ كاملةٍ عنها لغاية يومنا الراهن، فإنّ النصف الملآن من الكأس هنا يتمثَّل في أنّ الصفقة سرعان ما تحوَّلت إلى صفعةٍ استفاق الروس على إيقاع شدّتها من غيبوبتهم التي استمرَّت طيلة السنوات التسع العجاف التي تلت تفكُّك الاتّحاد السوفييتيّ، ولا سيّما أنّ شهرًا واحدًا لم يكد يمرّ على تلك الصفعة حتّى بادر الرئيس يلتسين إلى تعيين فلاديمير بوتين رئيسًا للوزراء، قبل أن يُعيِّنه بعد خمسةِ أشهرٍ رئيسًا بالإنابة ليلة الانعطاف التاريخيّ ما بين القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، ولتنتهي إثر ذلك حقبة الضُعف الروسيّ إيذانًا بانبثاق فجر عهد القوّة.
على هذا الأساس، يُصبح في الإمكان التسليم جدلًا بأنّ الرئيس بوتين يحمل في أعماق وجدانه اعترافًا ضمنيًّا بما شكَّله تحوُّل الصفقة إلى صفعةٍ من فألٍ حسنٍ له ولبلاده على حدٍّ سواء، تمامًا مثلما يُصبح في الإمكان القول أيضًا في الموازاة إنّ الصرب، وإنْ كانوا قد تأخَّروا كثيرًا للاتّجاه صوب الاستثمار في عصر القوّة الروسيّة جرّاء الانبهار بوفرة الوعود الأميركيّة التي لم يتحقَّق منها طيلة السنوات الماضية إلّا القليل، ولكنّ عودتهم المتّزنة والمدروسة بعنايةٍ فائقةٍ إلى التأقلُم مع المسار الروسيّ، سواءٌ على مستوى تطوير العلاقات الثنائيّة أم على مستوى التعاون في المجالين الإقليميّ والدوليّ، باتت تشي اليوم بأنّ كلّ ما زرعه الأميركيّون والأطلسيّون يكاد يعود عليهم للتوّ بمواسِمَ كاسِدةٍ… وحسبي أنّ هؤلاء الصرب الطيّبين لا يزالون يردِّدون معي في هذه الأيّام تلك الطرفة التي تعود إلى زمان الحرب عام 1999، والتي تتحدَّث عن أنّ طفلًا صربيًّا سُئل ذاتَ مرّةٍ أثناء مشاركته في برنامجٍ تلفزيونيٍّ عن أغلى ثلاثِ أمنياتٍ لديه، فأجاب بالقول: “أوّلًا أن يُصبح بيل كلينتون أبي، وثانيًا أن تُصبح مادلين أولبرايت أمّي، وثالثًا أن أُصبِح يتيمًا”… والخير دائمًا في استقاء العِبر من براءة الأطفال في الحالة الروسيّة – الصربيّة الراهنة من وراء القصد.