السلايدر الرئيسيتحقيقات
فنزويلا وتداعيات الأزمة الراهنة: نهاية “الثورة البوليفاريّة” الأصيلة أم بداية “العصر الترامبيّ” الجديد؟
جمال دملج
ـ بيروت ـ من جمال دملج ـ عندما افتتح الرئيس الفنزويليّ الراحل هيوغو تشافيز مرحلة إعادة الزخم إلى مسار علاقات بلاده مع روسيا بالإعلان عن أنّ “التعاون مع موسكو لا غنىً عنه من أجل التنمية الاقتصاديّة في أمريكا اللاتينيّة، مؤكِّدًا على أنّه “عقبَ فترةٍ مظلمةٍ وفظيعةٍ جدًّا من تسيُّد الامبراطوريّة الأمريكيّة على العالم، فإنّ أمريكا اللاتينيّة تُولد من جديدٍ”، ومنوِّهًا بأنّه “ليست فنزويلا وحدها، وإنّما أمريكا اللاتينيّة بأسرها تحتاج الآن إلى أصدقاء مثل روسيا”، على حدِّ تعبيره، سارعت الولايات المتّحدة من جانبها إلى أخذ فحوى هذا الكلام على محمل الجدّ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى في تاريخ علاقاتها المحكومةِ تقليديًّا بنزعاتٍ عدائيّةٍ مع كاراكاس، ولا سيّما بعدما تزامَن إعلان الرئيس تشافيز مع خطوةٍ اعتُبرت الأولى من نوعها على طريق استعراض القوّة البحريّة الروسيّة قبالة السواحل الأمريكيّة منذ تفكُّك الاتّحاد السوفييتيّ، وذلك عندما توقَّفت سفينة “بطرس الأكبر” النوويّة والمدمِّرة المضادّة للغوّاصات “أدميرال تشابانينكو” في ميناء العاصمة الكوبيّة هافانا أثناء التوجُّه لإجراءِ مناوراتٍ مشترَكةٍ مع البحريّة الفنزويليّة في مياه الكاريبيّ، ردًّا على توقُّف البوارج الحربيّة الأمريكيّة في ميناء “بوتامي” المطلّ على البحر الأسود في عزِّ اشتداد وطأة الحرب الروسيّة – الجورجيّة عام 2008، ناهيك عن أنّ الرئيس تشافيز كان يتحدَّث وقتذاك لدى وصوله إلى روسيا في إطار جولةٍ رسميّةٍ اشتملَت على كلٍّ من كوبا والصين وفرنسا والبرتغال، واستهدفَت التبشير باقتراب موعد انبثاقِ فجرِ عالمٍ متعدِّد الأقطاب ليحلّ مكان نظام أحاديّة القطب الذي فصَّلته الولايات المتّحدة في الأساس على مقاسات مصالحها الحيويّة والاستراتيجيّة، الأمر الذي يفسِّر أسباب وصول نسبة التوجُّس الأمريكيّ من كلام هذا الثوريّ البوليفاريّ العتيق إلى ذروتها خلال تلك المرحلة.
وإذا كان اثنان لا يختلفان على أنّ العلاقات الروسيّة – الأمريكيّة مرَّت خلال العام الأخير من عهد الرئيس جورج دبليو بوش بأسوأ مراحلها جرّاء الخلافات التي استفحلَت بين الطرفين حول العديد من القضايا الدوليّة والإقليميّة، بدءًا من تداعيات ملفّ البرنامج النوويّ الإيرانيّ، مرورًا بالإرهاصات الناجمة عن الأوضاع في العراق والإشكاليّات المتعلِّقة بكلٍّ من الإعلان عن استقلال إقليم كوسوفو من جانبٍ واحدٍ والرغبة في ضمّ أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شماليّ الأطلسيّ، ووصولًا إلى المسألة الأهمّ التي تمثَّلت في إعلان البيت الأبيض عن اعتزامه الشروع في إقامة الدرع الصاروخيّ في بولندا ومحطة الرادار في تشيكيا، فإنّ اثنين لا يمكن أن يختلفا أيضًا على أنّ الإدارة الأمريكيّة استشعرَت خطرًا إضافيًّا حقيقيًّا على مستقبل خططها الاستراتيجيّة وفرص نجاجها في أعقاب وصول الروس عبْر البوّابة الفنزويليّة إلى ما يُعرف بـ “الفناء الخلفيّ” للولايات المتّحدة في أمريكا اللاتينيّة، وفقًا لتوصيف المستشار السياسيّ للرئيس تشافيز ومدير معهد الدراسات الديبلوماسيّة العليا التابع لوزارة الخارجيّة في كاراكاس ريمون قبشي الذي فسَّر لي في أكثرَ من اتّصالٍ هاتفيٍّ جرى بيننا خلال تلك المرحلة سبب عدم صوابيّة استخدام توصيف “الحديقة الخلفيّة” الشائع باعتبار أنّ الحديقة تُخصَّص عادةً لزراعة الأزهار والورود بينما يُخصَّص الفناء في المقابل لرمي الأغراض التالِفة من المنزل مثل “الكراكيب”، على حدِّ تعبيره، وهو التوصيف الذي يفسِّر بالتالي أسباب جنوح الإدارات المتعاقِبة على سدّة الرئاسة في البيت الأبيض إلى الاحتفاظ بتحالفاتٍ دائمةٍ مع أكثرَ من نظامٍ حاكِمٍ في أمريكا اللاتينيّة من أجل الإبقاء على فرصٍ متاحةٍ أمامها لرمي مثل هذه “الكراكيب”.
وعلى رغم أنّ كافّة وقائع السنوات الطويلة الماضية أظهرَت بما لا يترك أيَّ مجالٍ للشكّ أنّ رسوخ ثوابت “الثورة البوليفاريّة” أعطَت الساحة الفنزويليّة مناعةً مكتسَبةً ضدَّ الإصابة بعوارض التحوُّل من حديقةٍ وطنيّةٍ مزهِرةٍ إلى فناءٍ خلفيٍّ أمريكيٍّ، سواءٌ خلال عهد الرئيس الراحل تشافيز الذي توفيَّ عام 2013 بعد أن أمضى أربعةَ عشرَ عامًا في الحكم أم خلال الولاية الرئاسيّة الأولى لخلَفِه نيكولاس مادورو الذي أُعيدَ انتخابه مؤخَّرًا بشكلٍ ديموقراطيٍّ لولايةٍ ثانيةٍ بأغلبيةِ سبعةٍ وستّينَ في المئةِ من مجموع الأصوات، فإنّ أكثر ما يبدو مختلِفًا اليوم في غمرة الأزمة الانقلابيّة الراهنة عمّا كان عليه الحال حتّى الأمس القريب يتمثَّل في أنّ غرابةَ أطوارِ الحاكِمِ بأمرِ البيت الأبيض في الوقت الحاليّ من شأنها أن تضع المستقبل الفنزويليّ في مواجهة العديد من الأخطار والتحدّيات الناجمة في الأصل عن إرهاصات ما يُمكن تسميته مجازًا بـ “العصر الترامبيّ” الجديد، الأمر الذي يفسِّر سبب حرص القيادة الروسيّة على التحذير من مغبّة القيام بأيِّ تدخُّل عسكريٍّ أمريكيٍّ ضدَّ الرئيس المنتخَب لصالح رئيس البرلمان خوان غوايدو الذي نصَّب نفسه رئيسًا مؤقَّتًا في فنزويلا، والذي اعترفَت الولايات المتّحدة على الفور بشرعيّة خطوته الانقلابيّة بحجّة التشكيك بنتائج الانتخابات الأخيرة، علمًا أنّ الأمانة المهنيّة تستوجب لفْت الانتباه هنا إلى أنّ وقائع السنوات الطويلة الماضية أظهرَت في المقابل أيضًا أنّ الروس فوَّتوا على أنفسهم كثيرًا منذ بداية الألفيّة الثالثة فرَص التشكيك بنتائج الانتخابات الأميركيّة التي أفضَت عام 2000 إلى فوز الجمهوريّ جورج دبليو بوش على منافسِه الديموقراطيّ آل غور بعدما تعطَّلت أجهزة الفرْز الإلكترونيّ لأيّامٍ كاملةٍ بلياليها في أكبرِ دولةٍ تكنولوجيّةٍ في العالم، وهي النتائج التي كانت كافيةً في حينه لكي تُشجِّعَ المريدين وتُلهمَهم على طرْحِ ألفِ سؤالٍ وسؤال.
وإذا كان المنطق يُجيز التسليم جدلًا بأنّ السياسة غالبًا ما ظلَّت تُجسِّد “فنّ الممكِن” في حياة القادة والأمم والشعوب على حدٍّ سواء، وبأنّ أسباب تقاعُس روسيا عن القيام بدورها التشكيكيّ المشروع تعود في الأصل إلى أنّ عصر “القوّة البوتينيّة” كان لا يزال وقتذاك في بداياته، فإنّ ما لا يمكن للمنطق أن يقبَل به في هذه الأيّام هو أنّ أيَّ تقاعُس من قِبَل إدارة الرئيس فلاديمير بوتين عن القيام بواجباتها في مجال حماية حلفائها الفنزويليّين، سواءٌ ضمن آليّات “فنّ الممكِن” أم وفقًا لأيِّ آليّاتٍ أخرى، سيعني في نهاية المطاف أنّ نجوم عصر القوّة الروسيّة ستدخل عاجِلًا أو آجِلًا في مرحلة الأفول… وحسبي أنّ الرئيس دونالد ترامب يُعِدُّ للتوّ العدَّة جيّدًا لهذا الأمر… والخير دائمًا في المحافظة على قلعةٍ بوليفاريّةٍ فنزويليّةٍ محصَّنةٍ في أمريكا اللاتينيّة لاحتواء تهوُّر النزعات الترامبيّة الراهنة على طول خارطة العالم وعرضها من وراء القصد.