الحملة العسكرية على إدلب عُلقت. بات مستبعداً أن تشن قوات النظام السوري هجوماً واسعاً بدعم من روسيا. لم تعد هذه القضية مدار خلاف بين أطراف «مسار آستانة» وحدهم. تحولت مشكلة دولية كبيرة. صارت ساحة مبارزة ومكاسرة بين موسكو وواشنطن وعواصم أوروبية عدة. وتنذر بتغيير جذري في المعادلات وقواعد الصراع في سورية وعليها، لأنها بدأت بفتح الباب أمام مسار سياسي معقد لن ينتهي بتحديد مستقبل بلاد الشام ومصير النظام في دمشق فحسب، بل برسم خريطة مصالح المنخرطين الإقليميين والدوليين في الأزمة. وهم كثر ولا يقتصر الأمر على تركيا وإيران وروسيا خصوصاً. وكان الكرملين بحشوده ومناوراته غير المسبوقة شرق المتوسط، وبتهديداته وغاراته المتقطعة على إدلب وريفها حرك المجتمع الدولي برمته. وساهمت أنقرة، من منطلقات مختلفة، في هذا التجييش. ولم يكن التحذير الأممي من أكبر كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين وحده آخر الصرخات التي أعادت القضية إلى المسار السياسي والديبلوماسي. ثمة اعتبارات أملت على جميع المعنيين، خصوصاً القيادة الروسية، إعادة النظر في حسابات الربح والخسارة. وعلى رأسها ماذا تفعل هذه القيادة بعد الحسم العسكري في شمال سورية؟ هل تطلق التسوية السياسية وحدها بمشاركة ثلاثي آستانة؟ وهل يمكن تجاهل المنخرطين الآخرين المعنيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة ودول أوروبية عانت وتعاني من أزمة اللاجئين التي تهدد استقراراها السياسي والاجتماعي؟ وكيف يمكنها إقناع الممولين المفترضين بالمساهمة في إعادة إعمار البلاد وإطلاق خطة لإعادة اللاجئين وعدم ربط هذين الهدفين بأولوية التسوية السياسية عبر الأمم المتحدة وبياناتها وقرارات مجلس الأمن الخاصة بسورية؟
ضمنت تركيا تأجيل الهجوم العسكري الواسع. وربما عشية القمة الثلاثية التي جمعت قبل أيام في طهران قادة الدول الثلاث صاحبة «مسار آستانة». حصلت على هدنة قد تطول لمعالجة مصير الفصائل المتطرفة والإرهابية لتجنيب إدلب مصيراً مأسوياً. عرضت مواصلة مساعيها، بمساعدة بعض القوى الإقليمية الحليفة التي يمكنها أن تعينها على تفكيك «هيئة تحرير الشام» التي تشكل «فتح الشام» (النصرة) عصبها الرئيس. وفي الواقع لا يعود الفضل في ذلك إلى جهود الرئيس رجب طيب أردوغان وأركان حكومته وقادته العسكريين وحدهم. قدمت هذه الجهود مخرجاً من المأزق لجميع المنخرطين في الأزمة. وساعد هؤلاء أنقرة في إدارة أوراقها. وأثبتت الدولة العميقة في تركيا أن العلاقات مع الأميركيين والأوروبيين «عميقة» مهما بلغ التقارب بينها وبين روسيا وإيران. ولا شك في أن الاجتماعات والاتصالات العسكرية والأمنية بينها وبين الولايات المتحدة ساهمت في لجم اندفاعة روسيا. ذلك أن موسكو تدرك بالتأكيد أن حفاظها على العلاقات مع أنقرة أهم بكثير من إعادة إدلب إلى حضن النظام في دمشق. بل لعل هذه العلاقات لا تقل أهمية عن الوجود الروسي في سورية كلها. وتدرك أيضاً أن الحسم العسكري في إدلب لن يكون نزهة، بل قد يتحول الهجوم «حرب استنزاف» طويلة. وتعرف أن الرئيس أردوغان لا يمكن أن يغامر بخسارة نفوذه العسكري والسياسي في بلاد الشام. لن يرضى بمشاركة «قوات سورية الديموقراطية» في الهجوم من أجل العودة إلى تل رفعت وعفرين بعد كل ما قدمته القوات التركية من أجل ترسيخ أقدامها وتوسيع انتشارها شمال سورية.
وتدرك موسكو أكثر أن الرئيس أردوغان الذي استثمر الكثير بعد إحباطه المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016 من أجل الإمساك بكل مفاصل الدولة، لن يتساهل في نقل أزمة سورية إلى الداخل التركي إذا خسر نفوذه في هذا البلد. فلا قدرة لبلاده على تحمل المزيد من اللاجئين في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني نتيجة العقوبات الأميركية، ونتيجة قراراته وسياساته المالية بعد تحويله النظام رئاسياً واستئثاره بمعظم الصلاحيات التنفيذية. بل ربما كان في حاجة إلى تهديدات خارجية دائمة، أو إلى «حرب» ما يلتف حولها الأتراك بدل انشغالهم بمتاعبهم الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة. فإذا أُرغم على الخروج لن يكون سهلاً عليه مثلاً تفعيل الحرب على الكرد، لا في كردستان العراق ولا في شرق الفرات السوري. فهل يقاتل الأميركيين المنتشرين شمال سورية وشرقها؟ وهل تسكت بغداد أو أربيل ببساطة على فتح معركة في كردستان أو غيرها؟ لذلك، رفع سقف التحدي في إدلب. دفع بمزيد من القوات إلى الحدود وما بعدها، إلى نقاط المراقبة المنتشرة بموجب قرارات آستانة في «منطقة خفض التوتر» في إدلب ومحيطها. وعزز ترسانة «الجبهة الوطنية للتحرير» التي تضم حوالى ثمانين ألف مقاتل من الفصائل الموالية لأنقرة، كما صرح الناطق باسم الجبهة النقيب ناجي مصطفى.
بالطبع، لم تكن تركيا وحدها وراء تعليق الهجوم على إدلب. بعد «سكرة» الحشود الروسية والمناورات الواسعة شرق المتوسط، جاء وقت السياسة والحسابات الدقيقة. موسكو لن تغامر بإخراج أنقرة من الشمال السوري. خسارة الرئيس أردوغان نفوذه هناك سيدفعه بالتأكيد إلى إعادة النظر في علاقاته مع شريكيه في آستانة. وقد توافق ورجال إدارته على تحييد ملف العقوبات الأميركية الضاغط على اقتصاده عن ملف العلاقات التاريخية مع واشنطن في المجالين العسكري والأمني. ولا مصلحة للكرملين في دفعه مجدداً إلى حضن الغرب. بل يحتاج إليه، تماماً على غرار طهران، في ظل العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة عليهما. مثلما تحتاج إليه إدارة الرئيس دونالد ترامب قوة عسكرية حاضرة في الميدان السوري ترجح نفوذه في هذا الميدان وتوسعه. وأقلق موسكو مثلاً اندفاع برلين إلى الحلف الأميركي – الفرنسي – البريطاني الذي هدد بعملية عسكرية واسعة ضد قوات نظام الرئيس بشار الأسد، إذا استخدم السلاح الكيماوي كما فعل عشرات المرات. في حين كانت ولا تزال تراهن على ألمانيا شريكها التجاري الأساس في الاتحاد الأوروبي وتعول على مواقفها السياسية. لذلك، بذل وزير خارجيتها سيرغي لافروف جهوداً للحؤول دون مشاركتها في أي عمل عسكري ضد دمشق. لكنه فشل في إقناعها بالمساهمة في المساعدات ومشروعات إعادة الإعمار للمدن والدساكر السورية المدمرة… ما لم تقم تسوية سياسية أممية. وهذه نقطة أخرى كانت ولا تزال هماً ضاغطاً على الكرملين. فإذا كان حقق «انتصارات» عسكرية رسخت أقدام نظام الأٍسد، فإن هذه الانتصارات تظل منقوصة، في ظل ما اقتطعت الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وحتى إيران من حصص. وفي ظل عدم قدرة روسيا على إعادة إعمار سورية وتحريك عجلة اقتصادها اللذين تعوزهما مليارات الدولارات، فضلاً عن إعادة اللاجئين والمهجرين في الداخل.
يكتب لإدلب أنها قد تكون طوت صفحة الحسم العسكري التام والناجز، وفتحت أبواب التسوية السياسية ومن أجل حفظ ماء الوجه والقضاء على قواعد المتطرفين، سيقتصر الهجوم على عمليات محدودة بمشاركة روسيا وتركيا وغيرهما طي صفحة «النصرة» إذا لم تنجح سياسة «المصالحات» أو المساعي التركية في إنهاء هذا الملف سلمياً. ولن يعارض أحد مثل هذه العمليات، لا الولايات المتحدة ولا أوروبا المعنية أيضاً بتقديم حبل نجاة إلى تركيا للحفاظ على استقرارها. تراجعت موسكو خطوة إلى الوراء. وبعد كل الضجيج والتهديدات التي أطلقها المسؤولون الروس، عاد الوزير لافروف ليجب كل ما سبق: «ما يتم تصويره بداية هجوم للقوات السورية بدعم من روسيا (على إدلب) لا يمثل الحقيقة». ثمة «حقيقة» أخرى وواقع جديد. الولايات المتحدة أعادت تصويب موقفها. لن تحتفظ ببقاء قواتها في سورية فحسب. أعدت «وثيقة» ضمنتها موقفها من التسوية السياسية تقود إلى تقليص صلاحيات الرئيس السوري وإصلاح الأجهزة الأمنية واعتماد اللامركزية وغير ذلك من تغييرات جذرية في النظام، إنما بإشراف… الأمم المتحدة وليس «آستانة». وأُعيد تفعيل عمل «المجموعة الصغيرة» لدعم سورية التي تضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية والأردن ومصر. ولم يعد في مقدور موسكو بعد كل هذه التطورات، أن تتجاهل هذه المواكبة الدولية لأزمة بلاد الشام. وما كانت ترفضه في السابق عادت لتقبل به. وأبدى الوزير لافروف استعداد بلاد للقاء المجمعة والتنسيق معها.
«معركة إدلب» فتحت الباب واسعاً للخروج من المأزق والاستعصاء. وهي ستدفع الرئيس بوتين إلى جادة الأمم المتحدة بدل الغرق في المستنقع الذي نبه إليه جون بولتون مستشار الرئيس ترامب للأمن القومي. ولم يعد في مقدور ثلاثي آستانة، والسيد ستيفان دي ميستورا المبعوث الدولي أيضاً، تجاهل «الورقة» الأميركية للتسوية السياسية في سورية. ولم يعد في مقدورهم تجاهل مسار «المجموعة الصغيرة» وهي أكبر مسار آستانة أو سوتشي وأوسع منه. ويبقى على موسكو وأنقرة أن تجترحا الحل المناسب لتسوية أزمة إدلب التي ساهمتا في خلقها بترحيل جميع المقاتلين المتطرفين إليها.
الحياة اللندنية