محمد المحمود
كنت قد ذكرت في المقال السابق (القراءة العقائدية للتاريخ) كيف أن السلفيين التقليديين قلبوا المنهجَ العلمي رأسا على عقب؛ في محاولتهم تثبيت عقائدهم الموروثة التي تشكلت قديما بفعل تجاذبات السياسة وتدافع حركة المصالح، حتى وصل بهم الأمر إلى مطالبة أتباعهم أن يُصدّقوا المستحيلات؛ لا من مبدأ إيماني خالص فحسب، وإنما أن يسحبوا هذا المبدأ اللاّعقلي/ المستحيل منطقيا على منطق البحث العلمي؛ ليجبروه ـ ومن حيث هو علم تحديدا ـ على التصديق باللامعقول من المنقول.
ثم لا يكتفون بذلك حتى يفرضوا على أتباعهم ـ المُسْتلبين على أكثر من صعيد ـ أن يعدوا كل هذا العبث الفوضوي (الذي يعكس حالة استخفاف مُسْتَفِز بالبديهيات العقلية) علما. بمعنى أنهم يريدون، وبمنطق عقائدي خاص بهم، تغيير وتزييف سردية الوقائع المتواترة في كتب التاريخ؛ مع الزعم ـ في الوقت نفسه ـ أنها هكذا يجب أن تكون “تاريخا” في كتب التاريخ، وليس فقط مجرد “تهويمات ميتافيزيقية” في كتب العقائد.
إنها حالة بدائية، حالة غرائزية أو شبه غرائزية، تحاول التأسيس لانحيازاتها العاطفية، وخياراتها الذاتية؛ كما يفعل البدائيون التقليديون الجامدون مع أبسط الأشياء التي ينتمون إليها أو تنتمي إلى عالمهم من قريب أو بعيد.
إنك تجد المجتمعات التقليدية تنحاز عاطفيا ـ دونما أدنى تفكير موضوعي ـ إلى الأشجار أو الثمار أو الحيوانات التي تنتمي إلى عالمها، وتُحِسّ أنها منها بشكل أو بآخر. ولهذا تخترع لها خصائص وفوائد، بل ومعجزات أسطورية، ولا تكتفي بذلك؛ حتى تدفع بعض أبنائها لتأكيد تلك الخصائص والفوائد والمعجزات الأسطورية بالعلم، أو بما تزعمه علما؛ خاصة عندما يكون الزمن الذي تتموضع فيه زمن سيادة العلم على مستوى الوعي الجماهيري العام.
ما الذي يحدث عندما يكون التفاح أو الجزر هو المنتج القومي المتوارث لمجتمع تقليدي بدائي. لا شك أن هذا المجتمع التقليدي سيتعامل مع هذا المنتج وفق منطق السلفيين؛ بالمنهج العلمي معكوسا. لن يبحث ابتداء في فوائد وخصائص التفاح أو الجزر، ثم يقرر هل هي مفيدة فعلا أم لا؟ وهل تمتلك تلك الخصائص المزعومة أم لا؟ بل سيقرر منذ البدائية، وباعتقاد سابق ناجز، أن التفاح أو الجزر مفيد، وأن له تلك الفوائد التي قال بها الأسلاف، ثم بعد ذلك سيحاول تطويع المنهج العلمي ولو بـ”تعطيبه”؛ ليؤكد ما آمن به قبل البحث، أي ليؤكد معتقده الخاص في الجزر والتفاح، وهو المعتقد الذي يحاول نقله من حالة “الخصوصية العقائدية” المشروطة بظروفها إلى عمومية الموضوعية العلمية المزعومة؛ لتحقيق مزيد من الوثوقية العقائدية، بل ومزيد من الرواج العقائدي تحت شعارات تتوسل التصديق العلمي!
بهذا المنطق التقليدي العاطفي (منطق الاعتقاد الجازم، ثم البحث عن مؤكدات هذا الاعتقاد) تجد أن “الجمل” عند قوم ما، هو الحيوان الأجمل والأجمل…إلخ الصفات الإيجابية الأسطورية المزعومة، بينما تجد “الثور” عند آخرين هو الحيوان الأجمل والأكمل…إلخ الصفات الإيجابية الأسطورية المزعومة.
لا يحاول هؤلاء وهؤلاء البحث علميا في أثر البيئة في الاصطفاء والاختيار، ولا كيف تشكّلت الأساطير عبر تاريخ زمني طويل من الارتهان المعيشي إلى هذا الحيوان أو ذاك، بل سيجري توظيف كل شيء، حتى “العلم”؛ ليخدم المعتقد الأسطوري.
ولهذا لا تعجب عندما ترى التقليديين من هؤلاء/ أصحاب الأبل وهؤلاء/ أصحاب البقر، يمارسون الخرافة حتى في عصر العلم، حيث يتداوى الأولون بـ”أبوال الإبل”، عن طريق شربها أو الاغتسال بها، بينما ترى الآخرين يتداوون بـ”أبوال البقر” عن طريق شربها أو الاغتسال بها، وكل فريق يفخر بما يفعل، و ـ في الوقت نفسه ـ يسخر من الآخر؛ بانحياز عاطفي صارخ إلى حيوانه الموروث/ المألوف.
وكل هذا طبيعي لو كان محض ممارسة خرافية مؤطرة بالسياق الخرافي، ولكن للأسف، فالزمن/ العصر الحديث الذي بات يتحدث بلسان العلم أجبر الخرافيين على البحث لخرافاتهم عن “دلائل علمية” تشهد لهم، لا بصواب هذه الممارسة الخرافية فحسب، وإنما بتأسيس مصداقية الأصول الاعتقاد عليها!
أذكر هذه الأمثلة وأشباهها حتى تتضح خطورة التفكير السلفي التقليدي على الوعي الجماهيري العربي، حيث لا بد من مخاطبته بمثل هذا التقريب/ التوضيح؛ وإلا استطاع الخطاب السلفي ـ بوضوحه ومباشريته ـ التهامه، ومن ثم تدمير البقية الباقية من سلامته الفطرية/ الطبيعية.
فالتجهيل الذي يمارسه التقليديون لتثبيت موروثهم الاعتقادي لا ينحصر في نطاق القضايا التي تتمحور أحاديثهم و”بحوثهم” حولها، وإنما يتسع بالضرورة ليُشَكّل عطبا عقليا أكبر وأخطر؛ إلى درجة تصبح معها الكوميديا الساخرة، العابثة حدّ الفشل؛ عاجزة عن اللحاق بسردياتهم التاريخية التي يصعب تقبّلها حتى بمنطق الهزل الكوميدي.
لكن، ما الذي استجد؟ ألم يكن هؤلاء التقليديون يصنعون سردياتهم العقائدية/ التاريخية التي يستخفون فيها بعقول الجماهير منذ القرون الأولى للهجرة؟ ألم تكن كل سلفية/ كل تقليدية منذ ذلك التاريخ تستجهل وتستغفل الأتباع بالتزييف المفضوح والاستغفال المُمَنْهَج، بل وتؤسس أيديولوجيتها على هذا الاستغفال والجهل/ التجهيل؟
الذي استجد هو أن السلفيين/ التقليديين أصبحوا اليوم يمارسون هذا العبث في زمن العلم، في عصر قائم ـ في كل مباني تصوراته ـ على احترام العلم، بل وعلى الاحتكام إليه؛ بعد أن تعززت قيمه وترسّخت؛ بفعل انتصاراته المبهرة التي غيرت وجه العالم. وبالتالي أصبحت حقائقه حقائق ملموسة للجميع، حقائق ضاغطة على الوعي؛ بفعل الاتصال المباشر بها في كل مجالات الحياة. بل وتعمّمَت وتعولمت قيم العلم ومبادئه، وغدا الفرد يستمد معارفه وقناعاته من مصادر عالمية متعولمة، ولم تعد عقائد الاستسلام الأعمى للموروث قادرة على الصمود أمام كل هذا الاختراق.
إن هذا هو ما جعل السلفيين/ التقليديين يتوسلون الخطاب العلمي ويتَمَسّحون به. لكن، وبما أن الخطاب العلمي بمقولاته الأساسية سينسف عبثهم التجهيلي الاستغفالي من أساسه، فلا بد ـ في تصورهم ـ من الالتفاف عليه، وتطويعه وتعطيبه ليكون ميدانا أوسع لممارسة سياسية الاستغفال الديني للجماهير.
إن السردية التاريخية التي يُقدّمها السلفيون التقليديون عن وقائع القرن الهجري الأول تحديدا، ليست أكثر من كوميديا، بل وكوميديا في غاية السخافة والركاكة؛ حتى ليصبح الضحك إزاءها ضحكا كالبُكاء، ضحك منقوع بالاكتئاب.
لك أن تتصور كيف يحاول هؤلاء التقليديون استنقاذ الصورة المثالية/ الصورة المُنَمذَجَة للشخصيات الاعتبارية، عن طريق تقديم الوقائع الحربية الدامية التي خَلّفت عشرات الألوف من القتلى والجرحى والمعوقين، وكأنها كانت مجرد مباريات وُدّية في كرة القدم، حيث أن المتحاربين يتسامرون ليلا، يُعبّرون ليلا عن تقدير بعضهم لبعض، يبكون على المصير المشترك للأمة بدافع المحبة المتبادلة، ثم يُقرّرون ـ في الوقت نفسه ـ أنهم في صباح الغد سيقتتلون، وسيضرب بعضهم أعناق بعض بالسيوف، وسيرمي بعضهم صدور بعض بالرماح، وسيمزق بعضهم أشلاء بعض، وسيدوس بعضهم على بعض بالخيول…إلخ المشهد الدامي، وهكذا طوال اليوم، وحين يحلّ المساء، يعودون إلى خيامهم، ويوقدون نيرانهم، ويتسامر “الأعداء” مع بعضهم (لا يجيز السلفيون وصف هذه الحالة بالعداء!)، يتسامر القاتل مع أبي القتيل، وأخو القتيل مع القاتل، والذي قُطعت بعض أعضائه مع المعتدي عليه…إلخ، وهم في كل هذا يُثني بعضهم على بعض، ويُعبّر كل طرف عن عميق المحبة للطرف الآخر، المعتدي والمعتدى عليه، بل ويدعو بعضهم لبعض بالخير والتوفيق والفلاح في الدنيا والآخرة!
هكذا يبدو مشهد القتال الدامي الذي استمر لعدة أيام في كل من “معركة الجمل” و”معركة صفين”، هكذا يبدو المشهد؛ كما يصفه السلفيون. نعم، يرى السلفيون ـ في مشهد كوميدي يصنعونه بخيالهم الواسع ـ أن هذه “الروح الرياضية” بين المتحاربين هي التي كانت سائدة في تلك الوقائع بين الصحابة، وكأنهم يتحدثون عن “مباريات رياضية”، (أقصى نتائجها كرة من الجلد المنفوخ تدخل في هذا المرمى أو ذاك)؛ لا عن معارك دامية أسقطت عشرات الألوف من القتلى (يُقدّر عددهم في صفين لوحدها بـ 70,000 قتيل)، حيث رأى الآباءُ أبناءَهم والأبناءُ آباءَهم غارقين في دمائهم؛ تتنازعهم السيوف وتتناوشهم الرماح.
قد يرى كثيرون أن مثل هذا المشهد الكوميدي العبثي غير موجود في راهن التأريخ السلفي/ التقليدي؛ حتى وإن وُجد في ماضيه. ومبعث هذا الاستنكار أنه لا يمكن الترويج لمثل هذا في زمن تعمّمت فيه قِيم العلم، وازاد حجم التداول المعرفي/ المعلوماتي؛ بفضل اتساع نطاق التعليم والإعلام والوسائط التواصلية.
لكن، للأسف، مثل هذا الاستخفاف بالعقول لا زال واقعا، بل ويجري نشره على نطاق واسع في عالم العربي اليوم، وبأحدث أدوات التواصل. ومن يريد أمثله على ذلك، فما عليه إلا أن يطالع في اليوتيوب سلسلة المحاضرات التي يُلقيها الواعظ المغربي السلفي/ سعيد الكملي عن وقائع التاريخ في القرن الهجري الأول، وحينئذ سيرى أمثلة حيّة لكل ما ذكرناه، حيث يذكر صراحة أن معتقداته هي التي تحكم رؤيته للوقائع التاريخي التي يسردها، وأن ما يعارض معتقداته يجب تأويله أو نفيه خارج نطاق “حقائق التاريخ”.
إن المؤرخين الأوائل، وبعضهم رجال دين، أدركوا الوقائع بكثير من التجرّد النسبي الذي لا يتوفر الآن للمعاصرين من السلفيين التقليديين. فمثلا، المؤرخون الأوائل لم يفترضوا مطامع معاوية السياسية افتراضا (وهي المطامع التي ينكرها السلفيون الآن، ومنهم سعيد الكملي)، وإنما بنوا ذلك على حقائق ثابتة تاريخيا. وحينما كانوا يذكرون “قميص عثمان” كرمز للانتهازية العارية، فقد كانوا يعرفون ويعترفون أن معاوية لم يأخذ بثأر عثمان رغم أن شعار الثأر كان هو الشعار المرفوع للاعتراض السياسي.
إنهم لا يؤكدون ذلك من فراغ، وإنما لمعرفتهم أن بعض مَن دَخَل على عثمان الدار وهاجمه مباشرة كان معروفا للجميع، مثل عمير بن ضابئ التميمي (كسر ضلعين لعثمان في الهجوم، وقيل لطمه أيضا)، فعمير هذا قتله الحجّاج عام 75 هـ بعد أن أُخْبِر بقصته مع عثمان. وهذا يعني ـ كما يؤكد كبار المؤرخين ـ أن أحد أشهر قتلة عثمان بقي 34 سنة حيا بعد استلام معاوية الحكم (منها 19 سنة حكم معاوية خاصة) وطوال هذه المدة لم يتعرّض أحد له بسوء رغم شهرته في حدث مقتل عثمان؛ بينما مشروعية انشقاق معاوية كانت قائمة على “الأخذ بثأر عثمان”؛ مع إخفاء الهدف السياسي إلى حين.
مثال آخر على هذا الاضطراب السلفي في التأريخ، فالواعظ/ سعيد الكملي في عرضه لوقائع وحيثيات “معركة الجمل” ينسب كل مُسبّبات الأحداث إلى مؤامرات شريرة؛ كيما يُخْرج كل الفاعلين الرئيسيين المباشرين من المسؤولية. ولا يتوقف الأمر عند هذا فحسب، بل إنه يروي حديثا ويصححه (بإسناده للمحدث الشهير: الحاكم) وهو الأثر الذي يقول فيه طلحة بن عبيد الله: “إنه كان مني شيء في أمر عثمان مما لا أرى كفارته إلا سفك دمي في طلب دمه”. وإذ يروي هذا، فلا هو، ولا أولئك الذين يستمعون إليه في سلبية تامة، يدركون أن هذا الأثر ينقض كل ما حاول المحاضر التأسيس له، إذ ما هو هذا الأمر العظيم/ الذنب العظيم الذي ارتكبه طلحة في حق عثمان، حتى لا يكفره إلا أن يبذل روحه في سبيل الثأر له؟ أليس في هذا إشارة مؤكدة إلى الوقائع التي يحاول المحاضر نفيها؟
على أي حال، تبقى المشكلة الأعمق أن المتحدث والمتلقي، منتج الخطاب ومستهلكه، أعمياء، أو مُتَعامون لا شعوريا، عن رؤية التناقض والاضطراب الذي تأنف منه حتى أتفه المسرحيات الكوميدية؛ فكيف بخطاب تَقوي يدعي أنه يستند إلى “العلم” في الرواية والتوثيق وتفسير الأحداث وتقييم الشخصيات؟!
الحرة