بابكر فيصل
في الفيلم العربي “واحدة بواحدة” يُعاني صلاح فؤاد (عادل إمام) الذي يعمل في وكالة أوسكار للدعاية والإعلان من منافسة شديدة في سوق الإعلان من قبل وكالة دعاية أخرى تعمل بها مايسة (ميرفت أمين) الفتاة المثالية الذكية والمجتهدة.
للخروج من مأزق شكوى تقدمت بها مايسة للغرفة التجارية ضده لمخالفته أخلاقيات المهنة، خطرت لصلاح فؤاد فكرة جهنمية متمثلة في اختراع سلعة لا وجود لها في أرض الواقع أطلق عليها اسم “الفنكوش”، ومن ثم شرع في الترويج لها عبر حملة دعاية قوية ومكثفة، ولدهشته وجدت سلعته الوهمية قبولا واحتفاء كبيرا من قبل الجمهور الذي استمات في السعي للحصول عليها دون أن يعرف ماهيتها، أو الغرض الذي صُنعت من أجله.
أصبح الناس يتكلمون عن “الفنكوش” ليلا ونهارا، يحلمون بها في منامهم، وفي صحوهم يبحثون عنه ويجتهدون في العثور عليها، وقد تخيل كل فرد منهم أنه سيجد فيه الحل السحري السريع لكل المشاكل التي يُعاني منها.
بعد أن باع صلاح فؤاد سلعته الوهمية وعقد العديد من الصفقات الرابحة مع رجال الأعمال وجد نفسه متورطا بخدعته التي لم يحسب المدى الذي يُمكن أن تصل إليه أو الأثر الذي يُمكن أن تتركه، إذ تحتَّم عليه إيجاد سلعة لا يعرف هو نفسه ماهيتها ولا كيفية التوصل إليها أو نوع الفائدة التي يمكن أن تعود منها.
الشريعة الإسلامية التي يُنادي تيار الإسلام السياسي بتطبيقها لا تختلف عن فنكوش صلاح فؤاد، حيث تورط أهل هذا التيار في رفع شعار لا يعرفون له كنها ولا ماهية محددة، وعندما تلقف الناس الشعار الذي ظنوا أنه سيحل جميع مشاكلهم فشل أصحابه في تقديم سلعة حقيقية يرضى عنها الجمهور.
هذا الأمر أثبتته التجربة السودانية حيث ظلت جماعة الإخوان المسلمين تحكم البلد منذ ثلاثين عاما بعد استيلائها على السلطة في عام 1989 عبر انقلاب عسكري على الحكومية الشرعية المنتخبة ديمقراطيا.
مارس الإخوان المسلمون، وبقية طيف الإسلام السياسي، ضغوطا هائلة وابتزازا مكشوفا على كافة الحكومات والأحزاب السياسية في السودان من أجل التطبيق الفوري للشريعة، ودوَّى في كل أنحاء البلد هتافهم الشهير: “شريعة سريعة أو نموت.. الإسلام قبل القوت”؛ وصوَّروا المعارضين لذلك الشعار في صورة المخالفين للدين نفسه. وبعد أن حكموا السودان لثلاثة عقود عجزوا عن تحديد ماهية الشريعة التي يتحدثون عنها.
في البدء قالوا إن الحدود الشرعية هي الشريعة التي يبتغونها، ووضعوا القانون الجنائي للعام 1991 الذي تضمن عقوبات جسدية مثل الجلد وقطع الأيدي والأرجل والرجم على مرتكبي جرائم الزنى وشرب الخمر والحرابة وغيرها. لكن، بعد مضي ثلاثين عاما أظهرت الإحصائيات أن تلك القوانين لم تكن ذات أثر، وأن الحدود المطبقة لم تؤد لانحسار الجريمة التي تطورت بصورة مخيفة واتخذت أشكالا مستجدة وغير مسبوقة.
بعد ذلك زعموا أن الشريعة تعني أسلمة المجتمع في مختلف النواحي، فقاموا ببناء آلاف المساجد وملأوا أجهزة الإعلام بالبرامج الدينية، وغيروا مناهج التعليم وفرضوا لبس الحجاب في دواوين الحكومة، ومنعوا الرقص المختلط في الأفراح وغير ذلك من المظاهر التي تنتقص من حريات الأفراد. ولكن، ذلك لم ينتج شيئا سوى التمسك الشكلي بمظاهر الدين المصحوب بارتفاع غير مسبوق في نسبة انتشار الآفات الاجتماعية في تاريخ السودان من شاكلة النفاق والكذب والمحسوبية واستغلال النفوذ، وظهرت طبقة واسعة من المتكسبين باسم الدين الذين فتحت أمامهم أبواب الثراء والشهرة دون أية مؤهلات أخلاقية أو كفاءة مهنية.
وأضافوا أن الشريعة التي يقصدونها لا يكتمل تطبيقها إلا باستدعاء الفريضة الغائبة ـ الجهاد، فقاموا بتجييش الشباب للحرب في جنوب السودان باعتبار أنها حرب دينية ضد المسيحيين وأصحاب الديانات الأفريقية، وبعد مقتل الآلاف من الشباب المغرّر به والذي وُعِد كل واحد منهم بزواج سبعين من الحور العين في الجنة حال استشهاده في تلك الحرب، وقعت الحكومة اتفاقا أدى لانفصال جنوب السودان وإقامة دولته المستقلة!
وزادوا في ادعائهم بالقول إن الشريعة التي ينادون بها تحرم الربا وتحل البيع، ورفعوا شعار أسلمة المصارف والبنوك، الذي يمنع استخدام نسبة الفائدة، ولكنهم احتالوا على تلك الصيغة بمعاملات أخرى من شاكلة المرابحة والمضاربة لا تختلف عن نسبة الفائدة بل تأخذ أربحا مسبقة مضاعفة، وكانت نتيجة ذلك الانهيار شبه التام للنظام المصرفي.
ومن ناحية أخرى فقد استمرت الحكومة في الاقتراض من المؤسسات المالية والدول بنسب فائدة أعلى بكثير مما كانت تفعله الحكومات السابقة حتى فاقت ديون السودان الخارجية أكثر من 53 مليار دولار بينما كانت لا تتعدي 13 مليار عند تولي حكومة الإخوان المسلمين الحكم.
كذلك، قالوا إن الشريعة التي يهدفون لتطبيقها تضمن حرية الناس وكرامتهم وعيشهم المشترك، ولكنهم أسسوا لأسوأ نظام استبدادي عرفه السودان في تاريخه الحديث؛ نظام يستند على حكم المليشيات والقوانين والأجهزة القمعية، ولا يعرف معنى تداول السلطة سلميا أو يحتكم لمبدأ فصل السلطات، نظام يتقوى ببعث النعرات القبلية والعنصرية، ويحتقر كرامة الإنسان بالحروب ومعسكرات النزوح التي امتلأ بها البلد حتى فاض.
لم يكتفوا بذلك، بل ادعوا أن الشريعة التي ينادون بها تحرسها قيم الصدق والأمانة وحفظ الحقوق، فإذا بالفساد الأخلاقي والمالي ينتشر في جسد الدولة كالسرطان، وإذا بالرشوة والمحسوبية تصبح العناوين الأبرز للمعاملات الحكومية والمجتمعية، وإذا باسم السودان يحافظ بجدارة على مكانته بين الدول الثلاث الأكثر فسادا في العالم بحسب تقارير منظمة الشفافية العالمية لسنوات متطاولة.
إن الدرس الأول المستفاد من تجربة حكم الإخوان المسلمين في السودان يتمثل في أنه لا يوجد شيء اسمه تطبيق الشريعة، وأنه مجرد شعار خالي من المضامين الحقيقية يتم استخدامه فقط من أجل الوصول للحكم.
كذلك تفيد تلك التجربة، أن النظام المدني الديمقراطي الذي يتم فيه الفصل بين الدين والدولة، هو أكثر أنظمة الحكم موائمة للدول المعاصرة لأنه يضمن توفير الحريات والتداول السلمي للسلطة وفصل السلطات ويحفظ حقوق وكرامة الناس وتتوفر فيه العدالة بصورة أفضل من أية نظام آخر.
ومن جانب آخر فإن تلك التجربة تؤكد صحة وجهة نظر دعاة الدولة المدنية الذين ظلوا يقولون إن الدين تنزُّل إلهي مداره الأساسي ليس أدوات الدولة وإنما القناعات الشخصية، فهو يُعطينا نظام القيم والمبادئ التي توجِّه التفكير والسلوك، أما الدولة ـ وهي صناعة بشرية ـ فمُهمتها تقديم الخدمات ولا شأن لها بتديُّن الناس.
وإذا كان مناط الدين هو توجيه التفكير والسلوك، فإن الاهتمام بتعميق العقيدة يجب أن يأخذ الأولوية على كل شيء آخر، وهذا التعميق ـ كما يقول أحمد عبده ماهر ـ يعني أن يكون الإنسان أكثر تقديرا لله، وأن يكون لهذا التقدير أثر عملي على سلوكياته، وأن يوقن بأنه سيُحاسب يوم القيامة، وهو كذلك يعني العناية بالخلق القويم، والاهتمام بالإخلاصِ في كل شيء، ويعني أن يكون ظاهر الإنسان كباطنه.
الحرة