محمد الرميحي
فتحت زيارة البابا فرنسيس إلى دولة الإمارات الأسبوع الماضي، وتوقيعه على وثيقة مشتركة مع الشيخ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر «الأخوة الإنسانية»، فتحت الباب واسعاً للإعلام العالمي لمحاولة إلقاء الضوء على ملف كبير، وهو «المسيحية والمسيحيون في الخليج». وبدا من التناول بعض قصور معرفي، ربما فرضته اللحظة والدهشة. فالوجود المسيحي في الخليج له قصة تروى، تبدأ بما عرف بنشاط الإرسالية الأميركية البروتستانتية في الخليج، التي تشكلت في الهزيع الأخير من سنوات القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة، بغرض التبشير في الجزيرة العربية، والتي التحقت بعد ذلك بكنيسة الإصلاح عام 1894. هذه الكنيسة التبشيرية والطبية والتعليمية، بدأت بإنشاء مراكز لها في مدن الخليج الساحلية، بدءاً من البصرة عام 1891، وبعد ذلك في مسقط (سلطنة عمان) ثم البحرين، وأخيراً الكويت. كل ذلك تم في العقد الأول من القرن العشرين. طبعاً كان الهدف كما ظهر في أدبيات تلك الكنيسة هو التبشير، مصحوباً بالتطبيب، وأيضاً بالتعليم.
ما يعنيني هنا الإشارة إلى أن ذلك المجتمع في دول الخليج كان مجتمعاً منفتحاً وقابلاً للآخر، بدليل السماح دون مقاومة لهذه الإرسالية بأن تبني مقراتها وتمارس عملها. وتجدر الإشارة إلى قول مهم لأمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب»، وهو المسيحي، وقد اطلع على أعمال تلك الإرساليات في العقد الثاني من القرن العشرين؛ حيث قال: «أنصح إخواني المبشرين بأن يركزوا في عملهم على التطبيب والتعليم، أما التبشير فإن هؤلاء البدو لن يتركوا دينهم قط». وهو قول له منطقه ومبرراته الموضوعية، فالدين ملتصق بالمجتمع والثقافة العامة والأسرة والتراث والتربية.
وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن العشرين، كان لهذه المواقع الإرسالية أثرها، الذي كان أكثر أهمية في النصف الأول من القرن العشرين؛ خاصة في التطبيب والتوثيق، وما لبث أن ضعف الدور بسبب التطور، حتى تم حل تلك الإرسالية في عام 1973.
ما يهم هنا ما تركه العاملون في تلك الإرسالية من إرث معرفي وتوثيقي مهم؛ خاصة في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، وتحديداً في توصيف مظاهر المجتمعات وأنظمتها في ذلك الوقت؛ حيث كان التعليم للمواطنين ضعيفاً أو منعدماً في هذه المنطقة العربية، وكذلك التوثيق.
أولاً ما تركه الأطباء العاملون من كتب حملت تجربتهم، وثانياً ما كتبه المنتسبون لتك الإرساليات، من مقالات ضمتها مجلة مهمة كانت تصدر في أميركا، وتسمى «العربية المنسية» (Neglected Arabia)، الكتب والمقالات شكلت ثروة كبيرة فيما بعد للباحثين لمعرفة الواقع الاجتماعي والاقتصادي لدول الخليج الحالية، وعاد إلى تلك الكتابات بعض الباحثين من أبناء وبنات الخليج الحاليين، إلا أنه في رأيي لم تسبر أغوار تلك الكتابات بشكل واسع وتحليلي ونقدي حتى الآن.
تجربة أولئك الأشخاص وما سطروه من معلومات وملاحظات، لم تدرس ولم تنقد بما فيه الكفاية، وما زال الباب مفتوحاً للباحثين لكي يفعلوا ذلك. أول وأشهر العاملين المتحمسين في تلك الإرساليات كان القس الطبيب صمويل زويمر (1867 – 1952) وكتب عنه كتاباً الباحث ناصر إبراهيم آل تويم. وقد ترك زويمر عدداً من الكتب، منها «السعودية مهد الإسلام»، و«عقيدة المسلمين»، و«العالم المحمدي»، وغيرها من الكتب والمقالات.
أما الشخص الثاني الذي ترك تراثاً مكتوباً ومهماً وعميقاً، فهو الطبيب بول هاريسون (1883 – 1962)، ومن أهم أعماله «طبيب في الجزيرة العربية» 1940، يعبر عن خلاصة تجربته في العمل طبيباً، وما واجهه من صعوبات. وقبله كتاب «العرب في ديارهم» 1924. في الكتاب الأول يقدم هاريسون دراسات عن الوضع الاقتصادي الاجتماعي في منطقة الخليج، ونشاط السكان الاقتصادي بشكل واسع. يصف أعمال الغوص لاستخراج اللؤلؤ، وأعمال الزراعة والتجارة في الصحراء، ووضع المرأة وقتها، ويوصِّف ما نعرفه اليوم بـ«الطب الشعبي».
أما الشخص الثالث الذي ترك كثيراً من انطباعاته عن المجتمع، فهو الطبيب ستانلي ميليري، الذي عمل في إرسالية الكويت من عام 1904، وتوفي ودفن في الكويت 1945، والذي ترك ثروة من المعلومات لم ترَ النور لفترة طويلة، ووجدها كاتب المقال مخطوطة في إحدى مكتبات جامعة «أكسفورد» في سبعينات القرن الماضي، وقام بترجمتها، ونشرت تحت عنوان «الكويت قبل النفط»، وثق فيها كاتبها تطور الكويت والمعيشة فيها من المأكل والمشرب، حتى توصيف الأماكن، والعادات، والأحداث، والأشخاص المهمين الذين التقاهم، وطريقة العيش التي كانت عليها الكويت، ووضع النساء الاجتماعي، والتطبيب الشعبي، كما يسرد لقاءه بشخصيات تاريخية من قيادات الجزيرة وقتها، من الذين قابلهم، ما يعني أنها ثروة معلومات اجتماعية مهمة حول مجتمعات الخليج، لولاهم ما عرفناها بهذه الدقة.
الجدير بالذكر أنه ليس بالضرورة أن كل ما جاء من معلومات أو تحليلات في تلك الكتب ومقالات مجلة «العربية المنسية» هو مطابق للواقع. فبعضها انطباعات ومسموعات، وربما يقع بعضها في الفهم الخاطئ للظواهر، ولكن هذا لا ينفي أن بها ثروة توثيقية مهمة.
قام بعض الباحثين الخليجيين بمناقشتها، دون الإخلال بالنصوص، مثل كتاب «الكويت قبل النفط» المشار إليه آنفاً. كما قام المرحوم خالد البسام بتأليف وترجمة بعض النصوص، صدرت في كتاب صغير بعنوان «صدمة الاحتكاك… حكايات الإرسالية الأميركية في الخليج والجزيرة»، رفع فيه بعض النصوص التي كتبها رجال تلك الإرسالية، وتجاربهم، خاصة مع المرضى! وأصدرت دارة الملك عبد العزيز ترجمة كتاب «أطباء من أجل المملكة»، ترجمه الباحث عبد الله بن ناصر السبيعي، ونشرته الدارة. كما قام المؤرخ مالك التميمي من الكويت بدراسة أكاديمية (رسالة دكتوراه) في السبعينات، عن ذلك التاريخ المسيحي في دول الخليج.
في ثلاثينات القرن الماضي أو حولها، شهدت دول الخليج هجرة إليها من مسيحيين ويهود من الدول المجاورة، وقد استوعبهم المجتمع، وأصبح بعض أبنائهم وبناتهم في مراكز مرموقة، مثل مناصب السفراء وعضوية المجالس التشريعية.
سردت كل تلك النقاط الموجزة من التاريخ؛ لأصل إلى أن المجتمع في الخليج كان وما زال منفتحاً وقابلاً بالآخر. أما فيما يفرضه الواقع اليوم من تدفق كبير لليد العاملة، فلم تفرق القوانين ولا المواقف الاجتماعية بين القادمين للمساهمة في التنمية، بسبب دينهم أو لونهم. اليوم في الخليج قاطبة جمع من البشر المتساوين في الحقوق تحت القانون القائم، وهم جماعات كبيرة من ديانات مختلفة، سواء كانوا طوائف مسيحية أو حتى من غيرهم، ولم يعد الفكر «التسطيحي» قابلاً للبيع في مجتمعات الخليج. والذي يفرق بين الناس بسبب ملتهم، يتاجر باسم الدين في مقايضة سياسية. فالمواطنة العالمية أصبحت حقيقة مقيمة.
من كل ذلك، فإن القداس الذي أقامه البابا فرنسيس في أبوظبي، الثلاثاء الماضي، وحضره الآلاف من القاطنين في الإمارات وحولها، ظاهرة تكمل المسيرة، كما أن عدد الكنائس المنتشرة في دول الخليج اليوم؛ بل ودور العبادة في بعض دولنا لغير المسيحيين والمسلمين، ظاهرة طبيعية ومقبولة، وهي امتداد لذلك التاريخ الطويل من الاحترام الذي ترجو له وثيقة أبوظبي أن يكون متبادلاً، وكفى متاجرة بالأديان أو استخدامها كمخلب قط لمصالح سياسية!
ما يعنيني هنا الإشارة إلى أن ذلك المجتمع في دول الخليج كان مجتمعاً منفتحاً وقابلاً للآخر، بدليل السماح دون مقاومة لهذه الإرسالية بأن تبني مقراتها وتمارس عملها. وتجدر الإشارة إلى قول مهم لأمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب»، وهو المسيحي، وقد اطلع على أعمال تلك الإرساليات في العقد الثاني من القرن العشرين؛ حيث قال: «أنصح إخواني المبشرين بأن يركزوا في عملهم على التطبيب والتعليم، أما التبشير فإن هؤلاء البدو لن يتركوا دينهم قط». وهو قول له منطقه ومبرراته الموضوعية، فالدين ملتصق بالمجتمع والثقافة العامة والأسرة والتراث والتربية.
وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن العشرين، كان لهذه المواقع الإرسالية أثرها، الذي كان أكثر أهمية في النصف الأول من القرن العشرين؛ خاصة في التطبيب والتوثيق، وما لبث أن ضعف الدور بسبب التطور، حتى تم حل تلك الإرسالية في عام 1973.
ما يهم هنا ما تركه العاملون في تلك الإرسالية من إرث معرفي وتوثيقي مهم؛ خاصة في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، وتحديداً في توصيف مظاهر المجتمعات وأنظمتها في ذلك الوقت؛ حيث كان التعليم للمواطنين ضعيفاً أو منعدماً في هذه المنطقة العربية، وكذلك التوثيق.
أولاً ما تركه الأطباء العاملون من كتب حملت تجربتهم، وثانياً ما كتبه المنتسبون لتك الإرساليات، من مقالات ضمتها مجلة مهمة كانت تصدر في أميركا، وتسمى «العربية المنسية» (Neglected Arabia)، الكتب والمقالات شكلت ثروة كبيرة فيما بعد للباحثين لمعرفة الواقع الاجتماعي والاقتصادي لدول الخليج الحالية، وعاد إلى تلك الكتابات بعض الباحثين من أبناء وبنات الخليج الحاليين، إلا أنه في رأيي لم تسبر أغوار تلك الكتابات بشكل واسع وتحليلي ونقدي حتى الآن.
تجربة أولئك الأشخاص وما سطروه من معلومات وملاحظات، لم تدرس ولم تنقد بما فيه الكفاية، وما زال الباب مفتوحاً للباحثين لكي يفعلوا ذلك. أول وأشهر العاملين المتحمسين في تلك الإرساليات كان القس الطبيب صمويل زويمر (1867 – 1952) وكتب عنه كتاباً الباحث ناصر إبراهيم آل تويم. وقد ترك زويمر عدداً من الكتب، منها «السعودية مهد الإسلام»، و«عقيدة المسلمين»، و«العالم المحمدي»، وغيرها من الكتب والمقالات.
أما الشخص الثاني الذي ترك تراثاً مكتوباً ومهماً وعميقاً، فهو الطبيب بول هاريسون (1883 – 1962)، ومن أهم أعماله «طبيب في الجزيرة العربية» 1940، يعبر عن خلاصة تجربته في العمل طبيباً، وما واجهه من صعوبات. وقبله كتاب «العرب في ديارهم» 1924. في الكتاب الأول يقدم هاريسون دراسات عن الوضع الاقتصادي الاجتماعي في منطقة الخليج، ونشاط السكان الاقتصادي بشكل واسع. يصف أعمال الغوص لاستخراج اللؤلؤ، وأعمال الزراعة والتجارة في الصحراء، ووضع المرأة وقتها، ويوصِّف ما نعرفه اليوم بـ«الطب الشعبي».
أما الشخص الثالث الذي ترك كثيراً من انطباعاته عن المجتمع، فهو الطبيب ستانلي ميليري، الذي عمل في إرسالية الكويت من عام 1904، وتوفي ودفن في الكويت 1945، والذي ترك ثروة من المعلومات لم ترَ النور لفترة طويلة، ووجدها كاتب المقال مخطوطة في إحدى مكتبات جامعة «أكسفورد» في سبعينات القرن الماضي، وقام بترجمتها، ونشرت تحت عنوان «الكويت قبل النفط»، وثق فيها كاتبها تطور الكويت والمعيشة فيها من المأكل والمشرب، حتى توصيف الأماكن، والعادات، والأحداث، والأشخاص المهمين الذين التقاهم، وطريقة العيش التي كانت عليها الكويت، ووضع النساء الاجتماعي، والتطبيب الشعبي، كما يسرد لقاءه بشخصيات تاريخية من قيادات الجزيرة وقتها، من الذين قابلهم، ما يعني أنها ثروة معلومات اجتماعية مهمة حول مجتمعات الخليج، لولاهم ما عرفناها بهذه الدقة.
الجدير بالذكر أنه ليس بالضرورة أن كل ما جاء من معلومات أو تحليلات في تلك الكتب ومقالات مجلة «العربية المنسية» هو مطابق للواقع. فبعضها انطباعات ومسموعات، وربما يقع بعضها في الفهم الخاطئ للظواهر، ولكن هذا لا ينفي أن بها ثروة توثيقية مهمة.
قام بعض الباحثين الخليجيين بمناقشتها، دون الإخلال بالنصوص، مثل كتاب «الكويت قبل النفط» المشار إليه آنفاً. كما قام المرحوم خالد البسام بتأليف وترجمة بعض النصوص، صدرت في كتاب صغير بعنوان «صدمة الاحتكاك… حكايات الإرسالية الأميركية في الخليج والجزيرة»، رفع فيه بعض النصوص التي كتبها رجال تلك الإرسالية، وتجاربهم، خاصة مع المرضى! وأصدرت دارة الملك عبد العزيز ترجمة كتاب «أطباء من أجل المملكة»، ترجمه الباحث عبد الله بن ناصر السبيعي، ونشرته الدارة. كما قام المؤرخ مالك التميمي من الكويت بدراسة أكاديمية (رسالة دكتوراه) في السبعينات، عن ذلك التاريخ المسيحي في دول الخليج.
في ثلاثينات القرن الماضي أو حولها، شهدت دول الخليج هجرة إليها من مسيحيين ويهود من الدول المجاورة، وقد استوعبهم المجتمع، وأصبح بعض أبنائهم وبناتهم في مراكز مرموقة، مثل مناصب السفراء وعضوية المجالس التشريعية.
سردت كل تلك النقاط الموجزة من التاريخ؛ لأصل إلى أن المجتمع في الخليج كان وما زال منفتحاً وقابلاً بالآخر. أما فيما يفرضه الواقع اليوم من تدفق كبير لليد العاملة، فلم تفرق القوانين ولا المواقف الاجتماعية بين القادمين للمساهمة في التنمية، بسبب دينهم أو لونهم. اليوم في الخليج قاطبة جمع من البشر المتساوين في الحقوق تحت القانون القائم، وهم جماعات كبيرة من ديانات مختلفة، سواء كانوا طوائف مسيحية أو حتى من غيرهم، ولم يعد الفكر «التسطيحي» قابلاً للبيع في مجتمعات الخليج. والذي يفرق بين الناس بسبب ملتهم، يتاجر باسم الدين في مقايضة سياسية. فالمواطنة العالمية أصبحت حقيقة مقيمة.
من كل ذلك، فإن القداس الذي أقامه البابا فرنسيس في أبوظبي، الثلاثاء الماضي، وحضره الآلاف من القاطنين في الإمارات وحولها، ظاهرة تكمل المسيرة، كما أن عدد الكنائس المنتشرة في دول الخليج اليوم؛ بل ودور العبادة في بعض دولنا لغير المسيحيين والمسلمين، ظاهرة طبيعية ومقبولة، وهي امتداد لذلك التاريخ الطويل من الاحترام الذي ترجو له وثيقة أبوظبي أن يكون متبادلاً، وكفى متاجرة بالأديان أو استخدامها كمخلب قط لمصالح سياسية!
آخر الكلام:
«يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وُهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء». المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 10 ديسمبر (كانون الأول) 1948، بعد أن شهد العالم أكبر مجزرة في التاريخ، قام بها الإنسان ضد أخيه الإنسان!
الشرق الأوسط