عريب الرنتاوي
تقترب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الكشف عمّا وصفته بـ”صفقة القرن”. جارد كوشنر سيضع اجتماع وارسو الوزاري في صورة هذه المبادرة، وسيتجه بعدها إلى عدد من دول الخليج الثرية، ليعرض على قادتها “الجوانب الاقتصادية” منها، باعتبار دولهم من أقوى المرشحين لتمويل الصفقة وتسهيل ابتلاعها من قبل الجانب الفلسطيني، وربما الأردني في مرحلة لاحقة.
أغلب التوقعات بشأن فرص نجاح المبادرة تبدو متشائمة، وسط تقديرات سائدة خصوصا في الجانبين الفلسطيني والعربي، بأن هذه الفرص تبدو أقل بكثير من تلك التي حظيت بها مبادرات سابقة أخفقت في الوصول إلى خواتيم ونهايات سعيدة لهذا الصراع، مع أن فريق كوشنر لا يكف عن التبشير بمبادرة فريدة من نوعها، تفصيلية وتقع في خمسين صفحة.
والحقيقة أن تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، يبدو كتاريخ للمبادرات المُخفقة، فلا المبادرات والتسويات التي اقترحتها قرارات الشرعية الدولية وجدت طريقها للتنفيذ، ولا الأفكار والمشاريع التي صدرت عن جهات دولية متعددة، وبالأخص الولايات المتحدة، نجحت في إنهاء هذا الصراع التناحري شديد التعقيد، والقائم في جوهره على “معادلة صفرية” قاسية وإلغائية.
وفي نظرة عميقة إلى مضامين فيض المبادرات والقرارات التي تعاقبت طيلة قرن من عمر هذا الصراع، نجد أنها جميعها أخفقت في الوصول إلى نقطة التقاء بين الحدين الأدنيين اللذين يقبل بهما فريقا الصراع، وأنها عجزت جميعها عن الوصول إلى “صيغة” تنهي مطالب الطرفين، وتحقق الاكتفاء والرضى من قبل جميع أو معظم الفلسطينيين والإسرائيليين. وليس في أفق المبادرة الجديدة مكان للتفاؤل بأن النتيجة هذه المرة، سوف تكون مختلفة عمّا سبقها من محاولات.
وربما لهذا السبب بالذات، تشهد الساحة الفلسطينية، وتحديدا في أوساط النخبة السياسية والفكرية والاجتماعية، جدلا محتدما حول “إعادة تعريف” المشروع الوطني الفلسطيني، والهدف الاستراتيجي/النهائي للنضال الوطني الفلسطيني، مع تزايد القناعة بتآكل “حلّ الدولتين”، وعودة الحديث عن “حلّ الدولة الواحدة ثنائية القومية”، من دون أن تستقر الآراء على رؤية واضحة ومشتركة، حتى الآن، مع ملاحظة أن مؤيدي الحل الأخير، حلّ الدولة الواحدة، في تزايد على المستوى الفلسطيني وفقا للأبحاث المسحية واستطلاعات الرأي العام.
لكن الجنوح لخيار “حل الدولة الواحدة” يصطدم بجملة عوائق، أهمها رفض الأغلبية الإسرائيلية الساحقة لهذا الحل، فضلا عن وجود شبكة مصالح فلسطينية واسعة وعميقة ترتبط بالسلطة الفلسطينية ومشروع “حلّ الدولتين”، ناهيك عن أن تيار الأغلبية الفلسطينية ذاته، ما زال مستمسكا بمشروع الدولة الفلسطينية على خطوط العام 1967.
وأغلب الظن، أن هذا الجدل والانقسام الداخلي الفلسطيني، سيستمر لسنوات عديدة قادمة، وسيستمر معه انقسام الموقف بين الفلسطينيين والإسرائيليين لمراحل أطول وأبعد.
تتفاوت أسباب رفض مشروع “الدولة الواحدة” عند طرفي الصراع؛ “هاجس الديموغرافيا الفلسطينية” ونظرية “الغيتو” المعبر عنها بقانون قومية الدولة ويهوديتها، ما زال عاملا مقررا في تشكيل الرأي العام الإسرائيلي، وربما يجادل البعض في أثر “الهولوكوست” على تشكيل الوعي “الانعزالي” اليهودي والإسرائيلي. فيما تُلقي “النكبة” بظلالها الكثيفة والكئيبة على تشكيل وعي الفلسطينيين ونظرتهم للمستقبل، بما فيها تمسكهم أكثر من غيرهم من شعوب المنطقة، بقضايا الهوية ورموزها ورمزياتها. والمفارقة أن المسافة الزمنية بين “الهولوكوست” و”النكبة” لا تزيد عن بضع سنوات.
والحديث عن “حلّ الدولة الواحدة” لم يطرح يوما على صورة “مبادرة لحل نهائي شامل ومتوازن”، فقد نشأ إسرائيليا في سياق السعي اللاهث لإنكار وجود الشعب الفلسطيني والاعتراف بحقوقه المشروعة، ودائما في سياقات عنصرية ـ توسعية ـ إلغائية. وتبلور فلسطينيا في سياق مشروع “تحرير فلسطين” من النهر إلى البحر ابتداء، وإلحاق الهزيمة بالمشروع الإسرائيلي، قبل أن يعاد طرحه إثر تفشي القناعة بتعذر “حل الدولتين”، ودائما في سياق اعتراضي ـ تهديدي، يخاطب هواجس الديمغرافيا عن الإسرائيليين.
في سياق الجدل الفلسطيني المحتدم، حول استنهاض المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة تعريفه، هل يمكن التفكير ـ لأول مرة ـ بإعادة طرح مشروع الدولة الواحدة، في سياق مختلف، ومن خارج الصندوق؟ كيف يمكن فعل ذلك، وما هي عناصر هذا المشروع؟
إن الأجوبة على هذه الأسئلة والتساؤلات، تنطوي على قدر من المجازفة، إذ تصطدم بجدران الثوابت والمألوفات في الخطابين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء. بيد أن لها ما يبررها ويجعل من طرحها أمرا ضروريا لإغناء النقاش الوطني العام، لا سيما بعد أن تأكد للفلسطينيين تعذر إنفاذ مشروعهم الوطني في صيغتيه: الأولى، التحرير الكامل، والثانية، صيغة “الحد الأدنى”، كما تقررت في العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، مثلما تأكد للإسرائيليين، استحالة إلغاء شعب بأكمله وطمس هويته واقتلاعه من أرض أبائه وأجداده برغم تفوق الدولة العبرية وتبوئها مكانة استراتيجية في هذه المرحلة، لم تطمح لها أو تحلم بها من قبل.
ثمة أركان أربعة لمشروع الدولة الواحدة كما يجري تداوله في الغرف المغلقة وعلى أضيق النطاقات، كإطار لحل نهائي متوازن، يأخذ بنظر الاعتبار الحقائق المتأسسة على تجربة قرن كامل من الصراع، وما اشتمل عليه من حروب ونكبات ونكسات وانتفاضات:
الأول؛ أن المشروع ينطلق من “ويفترض” مصالحة تاريخية بين الجانبين، واعترافا متبادلا بحقوق للشعبين في فلسطين التاريخية. الأمر سيكون قاسيا على الفلسطينيين الذين وإن كانوا يعترفون بوجود تاريخي لليهود في فلسطين، إلا أنهم لا يعترفون بحق هؤلاء في دولة (بالأخص يهودية)، ومن نافل القول، إنهم لا يعترفون بـ”حق” عودتهم إلى هذه الديار. والأمر سيكون بمثابة مراجعة تاريخية للفكرة الصهيونية التي تأسست على فرضية “شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب”. المصالحة التاريخية ليست خيارا سهلا لأحفاد “الهولوكوست” و”النكبة”، وبالأخص على الفلسطينيين، حيث أن الأولى ليست من صنعهم، فيما الثانية، “نكبتهم” من صنع الإسرائيليين.
الثاني؛ ينهض المشروع على مفهوم “المواطنة المتساوية”، “صوت واحد للشخص الواحد”، وضمان الحقوق والواجبات ـ الـ”فوق دستورية” ـ حرية الاعتقاد والحق في العمل واختيار مكان السكن والسفر والتنقل والصحة والتعليم، في إطار دولة مدنية ـ ديمقراطية ـ علمانية، وحقوق “وطنية” للقوميتين الرئيستين، وحقوق دينية وثقافية لجميع الأقليات والكيانات والمكونات، ولغتين رسميتين، وعاصمة موحدة، وإدارات خاصة للأماكن المقدسة، يمارسها أتباع الديانات الثلاثة، وفقا لترتيبات تضمن حقوق ممارسة الشعائر والعبادات للجميع من دون استثناء.
الثالث؛ كفالة “حق العودة” لجميع الفلسطينيين واليهود إلى فلسطين التاريخية، الحديث هنا يدور حول 13 مليون فلسطين ويهودي خارج فلسطين، لا يعني أنهم جميعا سيعودون فعليا، لكن حقهم في العودة محفوظ. وفلسطين التاريخية، تتوفر على قدر من المساحة والموارد الطبيعية والبشرية، ما يؤهلها لأن تتخطى سنغافورة بملايينها الستة المقيمين على رقعة جغرافية لا تزيد عن ضعف مساحة الشريط الضيق المسمى: قطاع غزة.
الرابع؛ في إطار هذا الحل، تصبح قضية “الاستيطان” تفصيلا، إذا ستتحكم المعايير الاقتصادية والاجتماعية بالحراك السكاني الداخلي، وبالإمكان إنشاء عدة مدن كبرى في مناطق عديدة (النقب مثلا) كفيلة بالاستجابة لمعدلات النمو السكاني الطبيعي واستيعاب العائدين وتخفيف الضغط عن المناطق المكتظة وكثيفة السكان، وفي إطار هذا الحل الذي سيجمع التكنولوجيا والمال الإسرائيليين بالمال والموارد البشرية الفلسطينية، تصبح قضايا أخرى مثل المياه والطاقة ليست عوائق ذات مغزى.
قد يبدو هذا التصور لمفهوم حل الدولة الواحدة “طوباويا”، وضربا من أفلام الخيال الخاصة بالأطفال، لكن الانهيارات المتلاحقة لمختلف الصيغ والمبادرات الأخرى، واصطدامها جميعها بعجزها عن الوصول إلى معادلة تنهي مطالبات الطرفين، وتضع خاتمة لقرن من الصراعات والحروب والانتفاضات المتعاقبة، تجعل التفكير “خارج الصندوق” أمرا ملزما بل ومشروعا.
الحرة