دارا عبدالله
تقريبا، صار أمرا متفقا عليه في أذهان المشتغلين بالحقلين، السياسي والثقافي، وخصوصا في السنوات الـ 25 الأخيرة، بأن جملة، كارل ماركس، التاريخية المشعة، التي بدأ فيها البيان الشيوعي: “إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية”، قد عفا عليها الزمن.
تغلبت المجتمعات الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصا في أوروبا الغربية وأميركا، على التفاوت الطبقي، والتناقض بين الطبقات. ولم يعد المدخل الطبقي الماركسي التقليدي، كافيا في فهم التاريخ.
ثمة تسميات عديدة لمجتمعنا الحالي، منها، مثلا، “المجتمع ما بعد الصناعي”، أو مجتمع “الاقتصاد المعرفي” أو “المجتمع الرقمي”. إذ تُفرَز المناصب الاجتماعية، حاليا، ليس اعتمادا على تصنيف “البنية التحتية” و”البنية الفوقية”، أو ثنائية “العمل اليدوي” و”العمل الذهني”، أو “برجوازية” و”بروليتاريا”، وإنما اعتمادا على سوية التعليم والمزاج الشخصي، والعديد مما يمكن أن نسميها بالعوامل “الناعمة”. حلّ المجتمع الفرداني الذي يكثر فيه الحديث عن الحقوق الفردية، محل مجتمع الطبقات و”الكتل الشعبية” و”الجماهير”، وصارت مصطلحات مثل “الوعي الطبقي” و”النضال الطبقي”، تُستحضَر فقط، كشكل من أشكال الفولكلور.
لكن، منذ فترة، وبعد هيمنة “السياسي” و”الحقوقي” على الخطاب السائد، عاد السؤال “الاجتماعي” والطبقي إلى النقاش العام مرة أخرى. ثمة عوامل عديدة لعبت دورا في تفعيل السؤال الطبقي، لا يمكن لهذه السطور حصرها، ولكن أهمها هو الأزمة المالية العالمية عام (2007 ـ 2008)، وفقدان ملايين الناس لوظائفهم، وانزياح جزء من الطبقة العاملة في أوروبا وأميركا من اليسار إلى اليمين، وموجات الهجرة واللاجئين التي غزت العالم بعد عام 2011، وخصوصا اللاجئون القادمون من دول ثورات “الربيع العربي”، تلك الثورات التي كان فيها الاقتصادي والطبقي عاملا مهما، وبالتأكيد ليس وحيدا، في انطلاقها.
وبسبب هذه العودة لـ “الاجتماعي”، صار من الضروري النقاش مجددا حول مفاهيم مثل الطبقة والصراع الطبقي والوعي الطبقي، وما المقصود بها بالضبط؟ وفي أي سياق تاريخي فكر بها ماركس.
كان كارل ماركس، رئيس تحرير جريدة “Rheinische Zeitung” في مدينة كولن الألمانية، لما أغلقت في 31 مارس/ آذار من عام 1843 بسبب الرقابة؛ سافر الحاصل على دكتوراه في القانون إلى باريس، إثر هذا الإغلاق، وعاش هناك لاجئا في المنفى.
في باريس، بدأ ماركس يحدد المفاهيم بدقة، إذ حدد الطبقات كجهات وتجمعات تمتلك فعالية سياسية، وخص البروليتاريا بنظريته، والتي عرّفها كقوة أساسية دافعة للتطور الاجتماعي.
في باريس، نظر ماركس لمفهوم “العمل الُمفقِر” (وهو مصطلح معاصر). على الفور لاحظ ماركس في باريس، بأن البروليتاريا لا تزال تفتقر إلى تعريف مفاهيمي دقيق ومحدد. في النشرات السياسية التي كتبها ماركس في أربعينيات القرن التاسع عشر، اختار ماركس التوصيف بدلا من التعريف، وانطلق مما شاهده في الواقع، وقال إن البروليتاريا هي تكتل اجتماعي شديد في عدم تجانسه.
بعدها بالتدريج، صار ماركس يوصف هذه الكتلة بشكل أدق: المتسولون والعمال المياومون والخدم والعاملات في المنازل، والعاهرات وعمال المصانع والمعامل والحرفيون الصغار والسجناء المحكومون.
بعدها، أضاف ماركس ما أسماهم بـ “البروليتاريا الفكرية”: المثقفون والفنانون والمثقفون. لكن ماركس كان يصر أن هذه الطبقة موحدة سياسيا وماديا وثقافيا.
في كتابه “مقدمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل” يقول ماركس عن البروليتاريا إنها: “تشكيل طبقة راديكالية، فيها فئة تحررية من المجتمع البرجوازي، ولكنها ليست طبقة برجوازية، طبقة قادرة أن تحل محل جميع الطبقات. وتشكل مجالا يمتلك شخصية عالمية، بسبب المعاناة العالمية المشتركة. طبقة لا تدعي أي حق خاص، ولا تناضل لأجل أمور بسيطة. طبقة لا تظلم أصلا، لأن الظلم يرتكب بشكل سيء بحقها. طبقة قادرة على تحويل معاناة الإنسان إلى رمز”.
محرك التاريخ
ولكن، ما يمكن الاعتراض عليه في الماركسية الكلاسيكية، هو أنه لا يمكن لأي تصور أو تعريف مفاهيمي، مهما بلغت دقته، أن يملأ الواقع التجريبي. بل العملية معكوسة، إذ أن ارتباك الواقع والقلق الكامن فيه، هو الذي يجبر العقل على صياغة المفاهيم. وهذه الديناميكية، هي التي تجعل المفاهيم قابلة للتطبيق والإدارة والحياة، وتصبح مداخل للفهم.
وبهذه الديناميكية الحيوية، يتم تجديد مفهوم البروليتاريا دوما، إذ قام ماركس في كل أعماله، ببناء روح موحدة وشكل عام لمفهوم البروليتاريا، يعمل في كل لحظة تاريخية بنفس الطريقة، مهما تعددت وتنوعت أشكال اللحظات التاريخية. يقول ماركس “محرك التاريخ هو الصراع الطبقي”، ولا يحدد مسننات هذه الحركة، لأنها تختلف من لحظة تاريخية لأخرى، ولكن “روح التاريخ” هي نفسها.
في “البيان الشيوعي”، يرى كل من ماركس وأنجلز التاريخ دوما صراعا بين طبقتين اجتماعيتين، مضطهدِة ومضطهدَة. أما حدود وأشكال هذه الطبقات، فتُحدَّد من خلال أنماط الإنتاج الموجودة في الاقتصاد السائد. ولا توجد أي لحظة تاريخية بدون اقتصاد سائد وأنماط إنتاج، وبالتالي، لا تاريخ بدون صراع بين هاتين الطبقتين.
وهكذا يقدم التاريخ نفسه في الرؤية الماركسية، سلسلة متتابعة من الصراعات الطبقية، “في كل مرة، تنتفي أطراف الصراع الطبقي بتحول ثوري للمجتمع
ككل، لتزول أطراف القتال وتتشكل أطراف أخرى”.
ويجب دوما الأخذ بالحسبان، في أي رؤية علمية شاملة للتاريخ، حادثة التحول الثوري الاجتماعي، لأن ذهنية التنظير للتحول الثوري، تنقذنا، مما يسميه ماركس، بـ “السقوط الدائم المشترك”. وإذا ما سألنا أنفسها اليوم، إذا ما كانت المفاهيم الماركسية ستساعدنا في فهم أنفسنا وتغيير علاقاتنا الاجتماعية، فيجب علينا، التعلم من الغث والسمين من تجربة ماركس الفكرية. علينا أن نوجه أنفسها من خلال وضوح تصوراته، وفي نفس الوقت، يجب أن نحذر بشكل جدي من التكاليف السياسية المتبعة من المفاهيم الماركسية.
التنبؤ الأممي الماركسي، بأن البروليتاريا، تميل دوما إلى التوحيد سواء ماديا في تجمعات سياسية متشابهة، أو معنويا من خلال امتلاكها نفس الوعي الطبقي، هو تنبؤ غير دقيق على الإطلاق. من جهة أخرى، فإن شروط الرأسمالية الحديثة، العابرة للهويات والبلدان والقارات، ولدت شكلا جديدا من أشكال البروليتاريا، كاللذين لا يمتلكون أي ملكية خاصة، ويعملون فقط من أجل رواتب نهاية الشهر، لأنه بدون هذا الراتب، لن يكون لديهم إي إمكانية للعيش.
بهذا التحديد، تشكل البروليتاريا الأغلبية الساحقة من الناس على كوكب الأرض، تلك الأغلبية التي عبرت عن نفسها في حركة “احتلوا وول ستريت”، تحت شعار “نحن 99٪”.
هذه الأغلبية البروليتارية، اليوم، متنوعة بشكل شديد ومنقسمة سياسيا وثقافيا وماديا، وبالتالي من المفضل التخلي عن مفهوم البروليتاريا التقليدي الماركسي، والذي يقول بأن البروليتاريا تمتلك دوما نفس الوعي الثقافي والسياسي، وهي موحدة ماديا. ويشير الفيلسوف الألماني، أكسيل هونيث، إلى أن البروليتاريا، حتى في زمن كارل ماركس، كانت متنوعة سياسيا وثقافيا وماديا، ولم تكن موحدة أبدأ بشكل مطلق في أي لحظة تاريخية. التعدد والتلون داخل الطبقة البروليتارية، هو أمر أراد ماركس إهماله والتغلب عليه بمفاهيمه الطبقية الصلبة. ولكن، فكرة البروليتاريا النقية، والتي تطمس واقعة وجود هويات متنوعة، واختلافات ثقافية، هي فكرة طوباوية، صارت ضربا من ضروب الخيال.
وبالتالي، فإن تاريخ نضالات المهمشين ليس بالضرورة أن يكون متزامنا ومتطابقا دوما. ثمة حركات نسوية، وحركات لإلغاء العبودية، وحركات للمطالبة بحقوق المثليين، وحركات للدفاع عن حقوق اللاجئين، ونلاحظ هنا أن مفهوم الهوية، لا يقل قوة وتأثيرا من مفهوم الطبقة.
يشير الفيلسوف الأميركي، ريشارد رورتي، إلى أن مفهوم “الطبقة” قد تحول بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إلى مشروع سياسي تضامني، يجمع بين الناس بالحد الأدنى، حول مبادئ مقارعة الظلم وإلغاء الاستغلال. وأي تعميق تفصيلي، يظهر الخلافات الملموسة بين الناس المنتمين إلى نفس الطبقة.
ويعتقد رورتي أن الماركسيين التقليديين المعاصرين يكابرون حتى الآن في رفض الإقرار بقوة صعود سياسات الهوية، وحلول مفاهيم سياسات الهوية مقابل مفاهيم الصراع الطبقي، والثقافة مقابل الاقتصاد. بل يصل عدم التواضع لديهم في أن يروا صعود سياسات الهوية، شكلا مموّها من أشكال الصراع الطبقي. ويرى رورتي هذا الادعاء مكابرة مضحكة. ويورد أمثلة عن الحروب الأهلية التي يقودها، غالبا، أناس فقراء ينتمون بحسب التعبير الماركسي إلى الطبقة البروليتارية، فلماذا ليسوا موحدين ماديا وثقافيا وسياسيا إذا؟
كما يشير روروتي إلى تشكل تجمعات عابرة للطبقات على أساس الهوية، كالحركات التي تدافع عن حقوق المثليين. وبالتالي، الماركسية التقليدية لا تصلح لفهم تعقيد عالمنا المعاصر.
الحرة