سقط عمود رخامي من أعمدة الكتّاب في الصحافة العربية. وبعد اليوم سوف نتطلّع إلى أعمدة هذه القلعة ونفتقد خيري منصور افتقاداً صادقاً، مهنياً وعاطفياً وإنسانياً. كان خيري أحد الأقلام التي أبحث عنها كل يوم، واثقاً من أنه لا يمكن أن يتغيّر، متأكداً أن وراء كل سطر جهداً وقراءةً وحرصاً هائلاً على كرامته كمُبْدع وأديب وعالي المشاعر القومية. كان جرحه الفلسطيني أعمق بكثير من سواه، لكنه، خلافاً لكثيرين من ذوي الموهبة ومن عُدمائها، أبقى ذلك الجرح تحت قناع الصبر، ولم يدخل به إلى ساحات المنافسة أو التجارة. واعتبر جرحه قضية شخصية ولدت معه وتموت معه، كما رآه مسألة قومية تفرض نفسها على الجميع من دون الوقوف على باب أحد.
كان خيري منصور من كبار الكتّاب ومن كبار القرّاء. تساوى في ذلك على امتلاك النعمتين. وتوَّجهما بالنعمة الثالثة التي هي التواضع، وبسبب ذلك التواضع، كان نزيهاً ومؤدّباً وملتزماً مقاييس العدل والأخلاق. قال له صديقه ورفيقه محمود درويش ذات مرة: كيف يمكن لإنسان أن يكتب ثلاثة مقالات في اليوم؟ والأرجح أن محمود لم يكن يدري بالمقالات الأخرى التي يسرّبها صديقه هنا وهناك، فينة وأخرى. غير أن تفرّد خيري منصور كان أنه، رغم ذلك الإكثار، لا ينزلق يوماً تحت مستواه الأدبي والفكري، وخصوصاً الثقافي.
لم تكن علاقته بالثقافة علاقة حيادية أو احترافية، بل كان واضحاً أنها شغَفُه الذي لا شغف بعده، وقد جمع في مهارة الاطلاع على جميع الثقافات. وحارب من أجل الانفتاح الفكري على معارف العالم، ولم يتخلَّ لحظة عن الشاعر الذي فيه، مع أنه أهمل الشعر كعمل، من أجل التكرّس لنشر أقرب إلى لغة الشاعر وهمومه ومشاعره وقضاياه. ساعده في ذلك أسلوب طيّب النيّة، حاد النبرة، بدا غالباً وكأنه منحوت من صخور يعيش بينها.
مثل كثير من المبدعين، وقع خيري منصور في قالب العسل. أغراه الانهماك اليومي في قضايا الفكر والحياة، وبدل أن يتفرغ للكتاب، انغمس في بحار الأعمدة. ومثل كثيرين من الكتّاب العرب كانت له أكثر من مدينة، خصوصاً في موطنيه القاهرة وعمّان. كانت مقابلته في الندوات العربية مسرّة من المسرّات. وقد جعل مهمته في الحياة أن يرفع من معنويات الآخرين. وأن يحاول تبديد الكآبة واليأس. وحاول أن يرفع أصدقاءه كما رفع قراءه إلى ما فوق الأشياء والمشاعر الصغيرة في الحياة.
إلى جانب كل هذه الميزات، كان أستاذاً حقيقياً في فن الاقتضاب، وكان يخطر لي أحياناً أنه من أحمد بهجت سوف يحوّل العمود ذات يوم، إلى جملة واحدة. لكن المخزون الثقافي الذي تكوّن لديه جعله يشعر بأنه مثل السدود العالية، مؤتمن على المطر وعلى توزيعه أيضاً.
كان خيري منصور من كبار الكتّاب ومن كبار القرّاء. تساوى في ذلك على امتلاك النعمتين. وتوَّجهما بالنعمة الثالثة التي هي التواضع، وبسبب ذلك التواضع، كان نزيهاً ومؤدّباً وملتزماً مقاييس العدل والأخلاق. قال له صديقه ورفيقه محمود درويش ذات مرة: كيف يمكن لإنسان أن يكتب ثلاثة مقالات في اليوم؟ والأرجح أن محمود لم يكن يدري بالمقالات الأخرى التي يسرّبها صديقه هنا وهناك، فينة وأخرى. غير أن تفرّد خيري منصور كان أنه، رغم ذلك الإكثار، لا ينزلق يوماً تحت مستواه الأدبي والفكري، وخصوصاً الثقافي.
لم تكن علاقته بالثقافة علاقة حيادية أو احترافية، بل كان واضحاً أنها شغَفُه الذي لا شغف بعده، وقد جمع في مهارة الاطلاع على جميع الثقافات. وحارب من أجل الانفتاح الفكري على معارف العالم، ولم يتخلَّ لحظة عن الشاعر الذي فيه، مع أنه أهمل الشعر كعمل، من أجل التكرّس لنشر أقرب إلى لغة الشاعر وهمومه ومشاعره وقضاياه. ساعده في ذلك أسلوب طيّب النيّة، حاد النبرة، بدا غالباً وكأنه منحوت من صخور يعيش بينها.
مثل كثير من المبدعين، وقع خيري منصور في قالب العسل. أغراه الانهماك اليومي في قضايا الفكر والحياة، وبدل أن يتفرغ للكتاب، انغمس في بحار الأعمدة. ومثل كثيرين من الكتّاب العرب كانت له أكثر من مدينة، خصوصاً في موطنيه القاهرة وعمّان. كانت مقابلته في الندوات العربية مسرّة من المسرّات. وقد جعل مهمته في الحياة أن يرفع من معنويات الآخرين. وأن يحاول تبديد الكآبة واليأس. وحاول أن يرفع أصدقاءه كما رفع قراءه إلى ما فوق الأشياء والمشاعر الصغيرة في الحياة.
إلى جانب كل هذه الميزات، كان أستاذاً حقيقياً في فن الاقتضاب، وكان يخطر لي أحياناً أنه من أحمد بهجت سوف يحوّل العمود ذات يوم، إلى جملة واحدة. لكن المخزون الثقافي الذي تكوّن لديه جعله يشعر بأنه مثل السدود العالية، مؤتمن على المطر وعلى توزيعه أيضاً.
الشرق الأوسط اللندنية