تركي الدخيل
ليت تلك العناوين على الرف، تكون خفيفة على قلبي، كما هي على قلبك عزيزي القارئ. كل كتابٍ مطبوع هو قصة مؤجلة يحكيها ناشر لناشر. بعض القصص لا يصدقها، ولا يفهمها، ولا يسليك في إعجاز تصاريف القدر فيها سوى من مرَّ بمثلها. ولا أنكر فضل شجاعتي – وهي تساعدني كثيراً للأمانة – وأنا أقترح على المرحوم القدير الأستاذ جورج طرابيشي أن يطبع أعماله في «مدارك»، لكن الذي رأيت منه حينها، وبعد ذلك من لطفٍ بالغ، وأدبٍ جم، طُبع عليه الراحل، مع سمو نفس، وجلد على القراءة، والبحث، والكتابة، ونقد النقد، لآخر أيامه، يجعلني حزيناً كلما أطل شهر مارس (آذار)، لسببين: أولهما، ذكرى رحيل الشيخ المتواضع، وقدوم معرض الكتاب، الذي يذكرني به دون كثيرين، فكلما مرَّ اسم «جورج» أمامي تذكرته يقول: الزميل الصديق، وذاك شرفٌ يتمناه كل قارئٍ، شغوف بكاتب قدير، وحين تجود الدنيا ويقترب من الكبير على الورق، فيجده أكبر في الحقيقة، وأكثر اتساعاً مما كان عليه قبل اللقاء.
جورج طرابيشي، أحد الكُتاب القليلين، الذين بلقياهم تحب أعمالهم أكثر، وبرحيلهم تعرف حجم الفجيعة والفراغ، الذي يتركه العظماء.
تساءل كثيرٌ من المثقفين: لماذا يوجد جمهورٌ عريض – من الشباب الخليجي – يحبون قراءة طرابيشي؟
قد لا أكون دقيقاً في إجابتي، لانحيازي ومحبتي للراحل، لكن الأسباب التي تحضرني، يتفق معي عليها أصدقاء أسامرهم، أهمها، تواضع الأستاذ العجيب، فهو لا يتأخر عن موعدٍ، ولا يُشعرك بأنك أمام أستاذ متعطش للتقدير. لم يكن يبالي بهذه التفاصيل، يُقبل عليك كله، فهو مستمعٌ عظيم، ومحاورٌ هادئ، وباحثٌ طويل النفس جداً. بدلالة مشاريعه التي أنجزها، أو تلك التي تمنى لآخر يوم أنه بدأ بها صغيراً كي يتمها.
كان مقيماً دائماً في الشك الذي يدفعه للأمام، صاحب عقل سؤول، وأسئلة، لا أظنها كانت تريحه، حتى في منامه، كيف لا وأهم شعاراته: «العقل لا يكون عقلاً إلا إذا كان نقدياً»!
وكان به من الخيبات ما استثمره جيداً، ليجعل كل خيبة مجموعة من أسئلة يجب البحث عن إجاباتها. فجورج الشاب الذي ترك المسيحية، لأن الله لا يمكن أن يكون بالقسوة التي صوره بها الكاهن، ومن ثم ذهب للصف المدرسي، فوجد حصة الثقافة الإسلامية تكفره، وأستاذها يناصب غير المسلمين العداء. هو دائماً – جورج – العربي المسيحي بالميلاد، والمفكر الذي سيقرأ عن الإسلام، حتى كانت آخر أمنياته أن ينجز تفسيراً للقرآن الكريم. والرجل الذي لا ينتظر من أحد شيئاً، فهو لا يريد أكثر من أن يقرأ، ويحقق، ويكتب، أو يستمتع بالمشي القليل بين فكرتين!
وهمة أستاذنا، جورج، وصدقه مع العلم، والبحث عن الحقيقة يدرسان، فهو القائل: «لم أكن أقرأ من قبل، والقراءة هوايتي الكبرى، إلا مع أو ضد، ومن بعد، صرت أقرأ بعيداً عن هم المع أو الضد، كنت أقرأ لأحكم. ولاحقاً، صرت أقرأ لأعرف، أي أني كنت سابقاً أرد كل ما أقرأه إلى ما أعرفه، والآن صرتُ أنطلق مع كل ما أقرأه إلى ما لا أعرفه». يا لتواضع أستاذ الجيل، صاحب الأكثر من مائة ترجمة، وهو يقول عن قراءاته، ما لا يصدر إلا عن نفسٍ تحاسب نفسها حساباً عسيراً، ولا تكبر، أو تتكبر يوماً عن التلقي، ولا تتعب منه.
كان جورج، باحثاً جاداً، ورجلاً يتركك في حيرة بعد كل لقاء، ويصدق ذلك إذا التفتنا إلى ما تركه لنا اليوم، فكما يقول صديقه الصدوق الدكتور محمد الهوني: «كان لجورج طرابيشي مشروعه الخاص، لإخراج المجتمعات من الأستار المغلقة إلى رحاب الحداثة، لذا قام بالترجمة والتأليف مطلعاً على عيون المعرفة، وهم الراحل الأكبر كان التبسيط، تبسيط المعرفة للجميع، حتى إن إحدى الغصص التي بقيت في حلق المرحوم، أنه لم يجد دعماً كافياً لتبسيط الفلسفة للأطفال».
ولا أستغرب اهتمام الأستاذ بتبسيط الفلسفة للأطفال، لأن ذلك يختصر الكثير من طريق الحيرة والتفكير، التي تبدأ مع الإنسان في أي مرحلة عمرية، فدون أدوات تمكنه من التحليل، والمقارنة، والاستنباط، فلن يسلم المرء من معاناة تثقل كاهله. ولا يعرف ضرر التعصب لفكرة واحدة، إلا من اكتشف ثمن ذلك بعد سنوات، حرم نفسه من أفكار أخرى.
وثق الكثيرون بعقل جورج، لأنه كان صادقاً جداً مع نفسه، فالمحطات التي مر بها كثيرة، وفي كلٍ منها، كان ينتج ويخلص للفكرة، حتى يظهر له أن الحق في جهة أخرى. فمن الفكر القومي، إلى الثوري، إلى الوجودي، وصولاً إلى الماركسية، لينتهي طرابيشي إلى تبني النقد الجذري، باعتباره الموقف الوحيد الذي يصدر عن المفكر في كل حالاته، خاصة في الوضعية العربية، التي ليس لها اتجاهان: إما أن تتبنى الرؤية المعتمدة على الماضي بكل رواياته، أو الرؤية المؤدلجة للحاضر، وكلا الأمرين بحاجة لعقل ناقد، نافذ البصيرة، كثير الشك؛ اليقين بالنسبة له ليس إلا دوام البحث بجدية.
ولا أمسك دمعي، وأنا أتذكر نداءه المحبب لقلبي: «دمت صديقاً وإنساناً ومحباً»، وأظنه اختصر لي بهذا النداء – الدعاء كل ما يتمناه الأستاذ لتلميذه. السبعيني المثقل بالخيبات، يعرف جيداً معنى كلمة الصديق، والهارب من كل شيء عدا الحقيقة، يعرف أن الوصول لصفة الإنسان، قد تأخذ عمرين لا عمراً واحداً، ولا تسكن المحبة في قلب، إلا إذا تخلص من الكراهية، وأمراض القلوب، وذاك لعمري صعب، وقد كنت أسمعها وأقرأها في مراسلاتنا، وأبتسم حينها، لكني أراها اليوم حملاً ثقيلاً.
أذكر الاتصالات الأخيرة مع الأستاذ، كان حقاً متعباً من النضال والكفاح من أجل أمته، مع كل تفجير أو ظهور مد متعصب لفكرة خطيرة، مثل التعصب كان يصاب بتعب نفسي رهيب. طالبته بألا يتوقف عن الكتابة، لإيماني بأنها علاجٌ للخروج من الإحباط، لكن كان رده صادماً: إننا نرى يا تركي ما نسميه اليوم بالربيع العربي أو الكارثة العربية، فالنخب المثقفة عاشت في وهم مجتمعات في رأسها، وخيالها، وابتعدت كثيراً عن الواقع، ونحن الذين حاربنا الآيديولوجيات وأنكرناها، كنا كمن يضع نظارة اخترناها، كي نبصر بها الواقع، كما نتمناه، لا كما هو! وعندما تهتك حجاب الحداثة الهشة رأينا مجتمعاتنا، فاكتشفنا أن مفاهيم كنا نعتقدها راسخة، مثل التعايش، أصبحت وهماً، لا أساس له في الواقع.
ماذا عساي أقول في ذكرى حزينة، أيها الزميل الصديق، كما كنت تحب أن تناديني؟!
أعرف أنه برحيلك تصدعت مدرسة عربية كبرى، ولم يبقَ في اليد غير طباعة أعمالك، قراءتها، ونقدها، حيناً بعد حين… أنت الذي علمتنا أن النقد تفكير جديد، وحالة صحية دائمة، حتى لو سرقت عمراً كاملاً في البحث عن الحقيقة!
الشرق الأوسط