ـ موسكو ـ من علي الخطايبة ـ يتزايد التوتر الدولي في السنوات الأخيرة إلى حد يتجاوز أحيانا حقبة الحرب الباردة عندما كانت المواجهة في أوجها بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وتفوق قسوة العقوبات الاقتصادية التي تُشرّعها واشنطن وبروكسل في أيامنا هذه ضد موسكو تلك التي كانت تُفرض من قِبل الولايات المتحدة وحلفائها في إطار الحصار الغربي على الاتحاد السوفيتي، إلى درجة أن راح بعض الخبراء الروس والغربيين إلى التكهن بأن هذه العقوبات المتصاعدة ما هي إلا تمهيدا لمواجهة مسلحة محتملة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
وإذا ما اعتبرنا أن فرضية تشديد العقوبات بمثابة تمهيد لمواجهات عسكرية هي أمر مستبعد على المدى القريب، لكن الحرب الاقتصادية ضد روسيا تُخاض فعلا من قبل الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في أوروبا منذ عام 2014 على خلفية النزاع المسلح الذي اندلع في أوكرانيا، بالإضافة إلى ضم شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية، وذلك بالتزامن مع تمدد قوات حلف الناتو شرقا باتجاة الحدود الغربية لروسيا.
لكن الفرق بين حقبة الحرب الباردة ووقتنا الراهن هو أن الغرب كان يبرر تصعيده ضد موسكو في العهد السوفيتي بسبب تزعمها لمشروع اشتراكي عالمي تعتبره بديلا للرأسمالية الغربية، كما أنها شكلت حلف “وارسو” العسكري مع بلدان أوروبا الشرقية لردع حلف الناتو، ولكن بعد مرور نحو 30 عاما على انهيار الاتحاد السوفيتي وتخلي روسيا عن النهج الإشتراكي والانفتاح الكلي على اقتصاد السوق يتضح للملأ أن الصراع الأيدولوجي الذي كان معلنا حينها ما هو إلا واجهة توارت خلفها تناقضات المصالح الاستراتيجية وتقاسم النفوذ على الساحة الدولية.
وروسيا ليست الدولة الوحيدة التي تُفرض بحقها عقوبات اقتصادية من قبل الولايات المتحدة، فقد أعلنت الأخيرة عقوبات على نحو 20 دولة في العالم وضغطت على الاتحاد الأوروبي كي يحذو حذوها مع الكثير من هذه البلدان، وامتدت الحرب الاقتصادية الأمريكية إلى الصين التي تمتلك علاقات حسن جوار مع روسيا، فضلا عن التبادل التجاري الذي يحتكم لاتفاقيات استراتيجية بين البلدين وصل في عام 2018 لأكثر من 120 مليار دولار، منهم 15 % كانت بالعملات المحلية.
وعلى الرغم من الحرب التجارية المستمرة بين الولايات المتحدة والصين استأنفت الأخيرة في نوفمبر/ تشرين الثاني استيراد دفعتين من الغاز الأمريكي المُسال، وعدلت عن قرار وقف شراء الغاز الأمريكي عبر المحيطات ليس فقط بسبب الطلب المتزايد في بكين على الغاز، ولكن استجابة لضغوط من واشنطن، فالغاز الطبيعي المُسال يتدفق إلى البلاد من روسيا بكميات هائلة عبر أنبوب “قوة سيبيريا” مع العلم أن الأنبوب الآخر “قوة سيبيريا 2″ سيباشر قريبا ضخ ” الطاقة الزرقاء” إلى السوق الصينية.
وعلى خلفية هذه العقوبات التي تضر بمصالح هذه الدول يرى الكثيرون من المحللين السياسيين الروس أن الوقت قد حان لإنشاء حلف سياسي بين موسكو وبكين تنظم إليه الدول التي تؤثر العقوبات الغربية على اقتصادها، بالإضافة لبلدان رابطة الدول المستقلة (جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق) المتحالفة مع روسيا.
وهذا الحلف الجديد في حال حصوله سيُمكن روسيا والصين من التصدي لقوة الغرب الموحد ومن لف لفيفه، وسيصبح هذا التحالف المُبرر، من وجهة النظر الروسية، المحور الأساس في القرن الواحد والعشرين الذي ستتمحور حوله جميع الأحداث الرئيسية وسيحدد اتجاه تطورها، وسرعان ما سيتطور إلى حلف سياسي عسكري يكون رادعا لحلف الناتو الذي أُنشأ على أسس دفاعية بحتة، ولكن بعد انهيار حلف وارسو نفذ الناتو عمليات هجومية خارج حدود بلدان الحلف وتعداها إلى قارات أخرى، كما حصل في أفعانستان عام 2001 وليبيا عام 2011، الأمر الذي أقلق الكثير من دول العالم.
وفيما يخص التعاون العسكري التقني بين موسكو وبكين فقد تطور في العقدين الأخيرين إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبحت الصين ثاني أكبر المشترين للأسلحة الروسية بعد الهند، وفي العام الماضي أجرى الجيشان الروسي والصيني مناورات عسكرية واسعة النطاق تحت اسم ” الشرق-2018″ في إقليم الشرق الأقصى الروسي القريب من الصين والمطل على بحر اليابان، كما دعم البلدان بعضمها البعض في المحافل الدولية عندما كان الأمر يتعلق بالحفاظ على التجارة الحرة، وفي ملف النزاع المسلح في سوريا، وعندما انسحبت واشنطن من اتفاق إيران النووي الذي أبرمته طهران مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة لألمانيا، وكذلك في التسوية الكورية.
ومع كل هذه الإيجابيات في العلاقة بين البلدين، فإن العديد من خبراء الاقتصاد الروس ينصحون بعدم تعليق آمال كبيرة على التحالف مع الصين وبناء أوهام عليه، لأن الساسة الصينيين يقدرون علاقاتهم مع الولايات المتحدة كشريكهم الاقتصادي الرئيس، وعندما يهدد الأمريكيون بفرض عقوبات جديدة على موسكو تبدأ بكين بالقلق بشأن مصير استثماراتها في روسيا.
ووفقا للبنك المركزي الروسي، فقد سحب المستثمرون الصينيون من روسيا في الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى يونيو/ حزيران 2018 مليار دولار وانخفضت استثماراتهم إلى نحو 3.2 مليار دولار، فضلا عن أن الصين عدلت عن الطرح الروسي وهو الانتقال التدريجي للتعامل بالعملات الوطنية بدلا من الدولار الأمريكي وهو ما أكده وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف وقال نهاية العام الماضي، إن روسيا والصين أجلتا فكرة توقيع اتفاقية حول التسويات المتبادلة بالعملات الوطنية، على الرغم من نجاح الفكرة في التبادل التجاري مع دول أخرى.
وعلى ضوء الحرب الاقتصادية المعلنة من قبل الولايات المتحدة ضد روسيا والصين، وإن اختلفت الأسباب التي تختلقها واشنطن يبقى الخيار الامثل أمام البلدين هو مواصلة التقارب في مختلف النواحي وبخطى ثابتة ومدروسة للوصول إلى حلف على غرار الناتو يحميهما من الابتزازات الأمريكية، بالرغم من اعتبار البعض في الأوساط السياسية الروسية أن عدد سكان الصين الذي يشكل 10 أضعاف السكان في روسيا والنمو الاقتصادي المتسارع، فضلا عن تطوير بكين للصناعات العسكرية يمثل تحديا استراتيجيا بالنسبة لروسيا.