سوسن الأبطح
نموذجان متصارعان يتقاسمان العالم، واحد يسعى لتقليص المسافات، وتقريب الكائنات، وردم الفجوات، وآخر يطالب بالحدود والسدود، ويرفع الجدران. مجزرة نيوزيلندا على قبحها ودمويتها ورغم الشجب الكبير لها، لن تكون الأخيرة في سلسلة جرائم عنصرية تزداد وتيرتها في الشرق كما في أقصى الغرب.
باسم الإسلام أو المسيحية، بحجة اللون والعرق، بذريعة نشر الحضارة وتطوير البرابرة أو للانتقام للمستضعفين من جبروت التسلط، كان دائماً ثمة سبب لقتل الآخر المختلف والتخلص منه.
احتاج كريستوفر كولومبس ثلاثة أرباع عمره ليصل إلى أميركا، ومداهنة كبار القوم، وتمويلاً سخياً من الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا ليحقق مبتغاه، وصار بمقدور الإنسان أن يصل إلى العالم الجديد في ساعات، وأن يتواصل مع سكانه في أقل من جزء من الثانية.
الطرفان يسرّعان الخطو للوصول إلى الغايات. ثمة أناس يصلون الليل بالنهار لجعل طائرة مثل «بوينغ 737 ماكس» أسرع مما يمكن أن تحتمل، وتودي بسبب تجاربها بحياة مئات الضحايا، رغبة في اختصار الزمن. وهناك في أميركا نفسها من يخوض صراعات مريرة كي يرفع جداراً عازلاً مع الجيران، ويكبح رغبتهم في الانتقال.
وترصد الصين مليارات الدولارات، لتربط ما تسميه «طريق الحرير» الذي لم نعد نعرف له حدوداً، بسكك حديدية، بينما تطرد ميانمار الموجودة على حدودها المسلمين الروهينغا، وتضيق بهم، وتتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعهم وتريحها منهم. ويجد البعض في الاختلاف رحمة، ويتغنون بالتثاقف المثمر، بينما يراه غيرهم نقمة لا تحتمل. وكل يرى من منظار منفعته، وبعيون معرفته، وقدرته على الاستشراف.
وبينما يناضل مئات آلاف الناشطين حول العالم، من أجل بيئة صالحة لسكان الكوكب وللأجيال المقبلة، وتذهب شركة «دانون» الفرنسية إلى أفريقيا لتدرب عشرات آلاف المزارعين على كيفية الحفاظ على التربة وتنويع إنتاجهم وتحفيزه؛ لأنها تؤمن أن ما يحدث في كينيا، سيُرى مردوده في بروكسل، ثمة من لا يزال يرى أن المناخ لم يتبدل ولم يتقهقر، وأنه بمجرد أن يغلق أبوابه سيشعر بالأمن ويستريح.
المقبل أعظم؛ لأن الانفتاحيين يزدادون إيماناً بأن الأرض وحدة متكاملة، وبأن البسيطة كلها مكان لمتعتهم وتجارتهم، وميدان لتعارفهم، بينما يجابههم الانكماشيون بحرب التخويف والتهويل وارتكاب الجرائم.
وفي معارك لا هوادة فيها، سنرى نزالات من نوع جديد؛ حيث سيكون الحساب على الكلمة، والملاحقة حتى على النوايا. فقد حكم على مغني الراب، نِك كونار، بدفع خمسة آلاف يورو في فرنسا، بسبب «فيديو كليب» عنوانه «اشنقوا البيض»؛ مصحوباً بمشاهد عنف، رغم أن الفنان يدَّعي أن كلمات أغنيته نوع من الفنتازيا الخيالية، وأنه آخر من يفكر في القتل العنصري. فحرية التعبير في الأجواء المشحونة لن تكون مطلقة، والتسامح حتى مع الألفاظ ليس في وقت الشدائد زمنه. وفاتنة الشاشة – ذات يوم – بريجيت باردو، تملأ أخبارها الصحف، بعد أن وصفت شعب جزيرة ريونيون بـ«البرابرة»، وتحدثت عن «احتفاظهم بجيناتهم الأصلية الوحشية» وغرقهم في «ذكريات أكل لحوم البشر»، في معرض دفاعها عن حقوق الحيوانات التي تخوضها منذ عقود.
وكانت فرنسا قد ضربت صفحاً عن بريجيت باردو في البدايات، حين كانت تتحدث عن المسلمين ووحشيتهم في التعامل مع الخراف ونحرها في عيد الأضحى؛ لكن الحسابات تغيرت، والحساسيات اشتعلت، وباتت النجمة المعتزلة أمام شكاوى بالجملة عند القضاء، والهجوم عليها لا يهدأ.
ففي التسعينات من القرن الماضي، كان الدفاع عن الحيوانات نوعاً من النبل والرفعة. صار الإنسان أشد حاجة من النمور والفهود للحماية، وهو يُذبح بالسكاكين ويُردى بالبلطات أمام الكاميرات، ويجهز شخص واحد على مائة ضحية وهو يتعمد البث المباشر.
المرأة التي كانت الأجمل في فرنسا، لم تعد على الموضة. فبينما يحدثنا تطبيق «تريب أدفايزر» عن أفضل الوجهات لتجريب الأطعمة الجديدة، واختبار المذاقات الغريبة، تنتعش حركة «أزيلوا الكباب» التي عرفت في صربيا أثناء الحرب مع البوسنة، كناية عن شهوة القضاء على المسلمين، وآكلي هذا الطبق الشرقي، التي يعتقد أن مجرم نيوزيلندا هو سليلها، وابنها البار.
فهو ليس مقطوعاً من شجرة. يمكنه أن يكون واحداً من بين الآلاف الذين تجمهروا في فرجينيا عام 2017، منشدين تفوقهم الأبيض وغرورهم الاستعماري القديم، وكرههم للمساكين الوافدين على بلادهم. هو أيضاً تلميذ فكر ممتد له أصوله ومنظروه. فليست مصادفة أن تعود رواية جان راسبايل «معسكر القديسين» العنصرية الدنيئة في فرنسا، التي صدرت قبل ما يقارب خمسين سنة، إلى لائحة الكتب الأكثر مبيعاً عام 2011. ثمة حنين قوي عند البشر وهم يتقدمون، إلى استعادة شريعة الغاب.
لا جديد تحت الشمس. كانت العنصرية والرغبة في الفتك بالآخر المختلف رفيقة الإنسان وقرينة الشر بحجج متباينة، وتغيرت على مر الزمن تجلياتها ومسمياتها. «داعش» أو «الصهيونية»، «تفوق العرق الأبيض» أو «استعمار»، باسم الدين، أو بغاية تمدين الآخر ونقل الحضارة، بهدف نشر القيم السامية، قتل الإنسان أخيه الإنسان. لكن المسيرة مستمرة، والراغبون في مكافحة استغلال الاختلاف ومنع استثماره الشرير يتنامون عدداً، وإن جوبهوا بمتطرفين من كل دين ولون وطائفة وعرق.
الحروب ستكون طويلة، والمقاومة شرسة، وأنصارها قادرون على التجييش والانتصار هنا وهناك، وحصد مزيد من الأرواح البريئة. فالإنسان كائن جبان، ومعانقة الإنسانية تحتاج شجاعة. ولا جسارة من دون قوة وثقة بالنفس. أما الحقد على الآخر فهو قمة الخوار.
باسم الإسلام أو المسيحية، بحجة اللون والعرق، بذريعة نشر الحضارة وتطوير البرابرة أو للانتقام للمستضعفين من جبروت التسلط، كان دائماً ثمة سبب لقتل الآخر المختلف والتخلص منه.
احتاج كريستوفر كولومبس ثلاثة أرباع عمره ليصل إلى أميركا، ومداهنة كبار القوم، وتمويلاً سخياً من الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا ليحقق مبتغاه، وصار بمقدور الإنسان أن يصل إلى العالم الجديد في ساعات، وأن يتواصل مع سكانه في أقل من جزء من الثانية.
الطرفان يسرّعان الخطو للوصول إلى الغايات. ثمة أناس يصلون الليل بالنهار لجعل طائرة مثل «بوينغ 737 ماكس» أسرع مما يمكن أن تحتمل، وتودي بسبب تجاربها بحياة مئات الضحايا، رغبة في اختصار الزمن. وهناك في أميركا نفسها من يخوض صراعات مريرة كي يرفع جداراً عازلاً مع الجيران، ويكبح رغبتهم في الانتقال.
وترصد الصين مليارات الدولارات، لتربط ما تسميه «طريق الحرير» الذي لم نعد نعرف له حدوداً، بسكك حديدية، بينما تطرد ميانمار الموجودة على حدودها المسلمين الروهينغا، وتضيق بهم، وتتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعهم وتريحها منهم. ويجد البعض في الاختلاف رحمة، ويتغنون بالتثاقف المثمر، بينما يراه غيرهم نقمة لا تحتمل. وكل يرى من منظار منفعته، وبعيون معرفته، وقدرته على الاستشراف.
وبينما يناضل مئات آلاف الناشطين حول العالم، من أجل بيئة صالحة لسكان الكوكب وللأجيال المقبلة، وتذهب شركة «دانون» الفرنسية إلى أفريقيا لتدرب عشرات آلاف المزارعين على كيفية الحفاظ على التربة وتنويع إنتاجهم وتحفيزه؛ لأنها تؤمن أن ما يحدث في كينيا، سيُرى مردوده في بروكسل، ثمة من لا يزال يرى أن المناخ لم يتبدل ولم يتقهقر، وأنه بمجرد أن يغلق أبوابه سيشعر بالأمن ويستريح.
المقبل أعظم؛ لأن الانفتاحيين يزدادون إيماناً بأن الأرض وحدة متكاملة، وبأن البسيطة كلها مكان لمتعتهم وتجارتهم، وميدان لتعارفهم، بينما يجابههم الانكماشيون بحرب التخويف والتهويل وارتكاب الجرائم.
وفي معارك لا هوادة فيها، سنرى نزالات من نوع جديد؛ حيث سيكون الحساب على الكلمة، والملاحقة حتى على النوايا. فقد حكم على مغني الراب، نِك كونار، بدفع خمسة آلاف يورو في فرنسا، بسبب «فيديو كليب» عنوانه «اشنقوا البيض»؛ مصحوباً بمشاهد عنف، رغم أن الفنان يدَّعي أن كلمات أغنيته نوع من الفنتازيا الخيالية، وأنه آخر من يفكر في القتل العنصري. فحرية التعبير في الأجواء المشحونة لن تكون مطلقة، والتسامح حتى مع الألفاظ ليس في وقت الشدائد زمنه. وفاتنة الشاشة – ذات يوم – بريجيت باردو، تملأ أخبارها الصحف، بعد أن وصفت شعب جزيرة ريونيون بـ«البرابرة»، وتحدثت عن «احتفاظهم بجيناتهم الأصلية الوحشية» وغرقهم في «ذكريات أكل لحوم البشر»، في معرض دفاعها عن حقوق الحيوانات التي تخوضها منذ عقود.
وكانت فرنسا قد ضربت صفحاً عن بريجيت باردو في البدايات، حين كانت تتحدث عن المسلمين ووحشيتهم في التعامل مع الخراف ونحرها في عيد الأضحى؛ لكن الحسابات تغيرت، والحساسيات اشتعلت، وباتت النجمة المعتزلة أمام شكاوى بالجملة عند القضاء، والهجوم عليها لا يهدأ.
ففي التسعينات من القرن الماضي، كان الدفاع عن الحيوانات نوعاً من النبل والرفعة. صار الإنسان أشد حاجة من النمور والفهود للحماية، وهو يُذبح بالسكاكين ويُردى بالبلطات أمام الكاميرات، ويجهز شخص واحد على مائة ضحية وهو يتعمد البث المباشر.
المرأة التي كانت الأجمل في فرنسا، لم تعد على الموضة. فبينما يحدثنا تطبيق «تريب أدفايزر» عن أفضل الوجهات لتجريب الأطعمة الجديدة، واختبار المذاقات الغريبة، تنتعش حركة «أزيلوا الكباب» التي عرفت في صربيا أثناء الحرب مع البوسنة، كناية عن شهوة القضاء على المسلمين، وآكلي هذا الطبق الشرقي، التي يعتقد أن مجرم نيوزيلندا هو سليلها، وابنها البار.
فهو ليس مقطوعاً من شجرة. يمكنه أن يكون واحداً من بين الآلاف الذين تجمهروا في فرجينيا عام 2017، منشدين تفوقهم الأبيض وغرورهم الاستعماري القديم، وكرههم للمساكين الوافدين على بلادهم. هو أيضاً تلميذ فكر ممتد له أصوله ومنظروه. فليست مصادفة أن تعود رواية جان راسبايل «معسكر القديسين» العنصرية الدنيئة في فرنسا، التي صدرت قبل ما يقارب خمسين سنة، إلى لائحة الكتب الأكثر مبيعاً عام 2011. ثمة حنين قوي عند البشر وهم يتقدمون، إلى استعادة شريعة الغاب.
لا جديد تحت الشمس. كانت العنصرية والرغبة في الفتك بالآخر المختلف رفيقة الإنسان وقرينة الشر بحجج متباينة، وتغيرت على مر الزمن تجلياتها ومسمياتها. «داعش» أو «الصهيونية»، «تفوق العرق الأبيض» أو «استعمار»، باسم الدين، أو بغاية تمدين الآخر ونقل الحضارة، بهدف نشر القيم السامية، قتل الإنسان أخيه الإنسان. لكن المسيرة مستمرة، والراغبون في مكافحة استغلال الاختلاف ومنع استثماره الشرير يتنامون عدداً، وإن جوبهوا بمتطرفين من كل دين ولون وطائفة وعرق.
الحروب ستكون طويلة، والمقاومة شرسة، وأنصارها قادرون على التجييش والانتصار هنا وهناك، وحصد مزيد من الأرواح البريئة. فالإنسان كائن جبان، ومعانقة الإنسانية تحتاج شجاعة. ولا جسارة من دون قوة وثقة بالنفس. أما الحقد على الآخر فهو قمة الخوار.
الشرق الأوسط