ـ موسكو ـ من علي الخطايبة ـ تدخل روسيا العسكري من أجل حماية نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، المتشبث بالسلطة يُذكّر بتدخلها في سوريا لحماية نظام بشار الأسد من سقوط حتمي، مع فارق أن الأخير كان عندما تدخلت روسيا في سبتمبر/ أيلول 2015 يواجه ثورة شعبية عارمة في عامها الرابع جاءت في سياق ثورات سلمية اجتاحت المنطقة العربية.
وسوء إدارة النظام السوري للأزمة أدت إلى تحول الاحتجاجات بعد 6 أشهر من إنطلاقها إلى ثورة مسلحة، بينما يحاول مادورو بكل الوسائل منذ سنوات إخماد احتجاجات شعبية وسط أزمة اقتصادية خانقة وأحوال معيشية تتردى من يوم لآخر، وتدير هذه المظاهرات السلمية أحزاب المعارضة التي تشكك في نزاهة العملية الانتخابية برمتها في البلاد.
وهناك أسباب تحول دون تطور سيناريو التدخل الروسي في فنزويلا كما في سوريا على الرغم من تشابه البداية في الحالتين وهي تقديم الاستشارات العسكرية، فقد بدأت موسكو بإرسال خبراء ومستشارين عسكريين إلى دمشق لكن الأمر سرعان ما تطور إلى إنشاء قاعدة “حميميم” الجوية العسكرية في شمال غرب البلاد، بالإضافة إلى أخرى تتبع الأسطول البحري الروسي في مدينة طرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، فضلا عن استخدام الطائرات المقاتلة الروسية أيضا مطارات عسكرية سورية عند الحاجة لتوفير غطاء جوي للجيش السوري في العمليات البرية.
في الحالة الفنزويلية التي لم تشهد الدمار بعد، ولم تراق بها الدماء كما في سوريا لن يتمكن الروس من أنشاء قواعد عسكرية لأن التشريعات في فنزويلا تُحرم بشكل قاطع وتحت أي مسمى إنشاء قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها على عكس سوريا وبلدان عربية أخرى، بالإضافة إلى رفض دول الجوار والولايات المتحدة القريبة والتي اعتاد سياسيوها تسمية بلدان أمريكا اللاتينية بالحديقة الخلفية للبيت الأبيض.
وفي سياق التطورات المتتالية في الأزمة السياسية القائمة في فنزويلا، وصل مؤخرا إلى مطار بضواحي العاصمة كاركاس نائب قائد القوات البرية الروسية الجنرال فاسيلي تونكاشكوروف وتحت إمرته 99 مجندا على متن طائرة عسكرية روسية، وبمرافقة طائرة نقل أخرى تقل 35 طنا من المعدات العسكرية، يعتقد أنها أجهزة رصد وتتبع مرتبطة بعمل الدفاعات الجوية الروسية الموجودة منذ سنوات في فنزويلا.
ولم يمر هذا الحدث دون اعتراض واشنطن، فقد صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في البيت الأبيض أمام الصحفيين خلال استقباله زوجة خوان غوايدو زعيم المعارضة الفنزويلية، بأنه على العسكريين الروس مغادرة فنزويلا فورا، مشددا على أن أمام واشنطن خيارات عديدة ستستخدمها في سبيل ذلك.
على الجانب الروسي تلقت موسكو ببرود تصريحات ترامب شديدة اللهجة، وطلبت من واشنطن عدم القلق من وجود عسكرييها في فنزويلا، موضحة أن وصول العسكريين الروس يأتي في إطار اتفاقيات ثنائية بين وزارتي دفاع البلدين، مع التأكيد أن روسيا لا تسمح لأي دولة إملاء الطريقة التي تدير بها سياساتها الخارجية، وأنها تتصرف وفقا لما تتطلبة مصالحها القومية دون انتهاك للقوانين والنظم الدولية.
وفي الوقت ذاته، يتسائل البعض من الأوساط المهتمة بالسياسة داخل المجتمع الروسي حول جدوى تدخل عسكري روسي جديد في بلد مضطرب يدنو من حافة نزاع مسلح في الوقت الذي لا تزال فيه قوات روسية ترابط في سوريا منذ 4 سنوات دون الوصول إلى تسوية سياسية للحرب الأهلية التي اندلعت هناك منذ النصف الثاني من عام 2011.
لكن لدى السياسين حساباتهم التي تجعل المتابعين للشؤون السياسية أحيانا في حيرة من أمرهم، فمنهم من يُخمن أن قرار الكرملين بالتدخل العسكري يعود إلى أن الدولة الروسية قد وجهت مستثمرين روس منذ سنوات لتمويل مشاريع تقدر بمليارات الدولارات في قطاعات الطاقة في فنزويلا التي تملك احتياطيات هائلة من النفط.
وآخرون يعتقدون أن على روسيا الإيفاء بالتزاماتها أمام فنزويلا التي ترتبط معها باتفاقيات عسكرية منذ عهد الرئيس الراحل هوغو تشافيز الذي أعاد تسليح جيش بلاده بالأسلحة الروسية، وانهيار نظام مادورو أو اندلاع حرب أهلية يعني تكبد الاقتصاد الروسي خسائرا كبيرة، وهذا ما يحاول الكرملين تفادي وقوعه.
من ناحيتها، تعتبر الولايات المتحدة أن تنحي مادورو عن الرئاسة يصب في مصلحة الشعب الفنزويلي، وتسعى لتثبيت حليفها غوايدو مكانه حتى لو تطلب الأمر اجتياح البلاد تماما كما فعلت مع نظام صدام حسين في العراق عام 2003 رغم رفض موسكو الشديد حينذاك.
وإذا ما قررت واشنطن اجتياح فنزويلا، فإن حادثة وصول الـ 100 عسكري روسي لا تخيفها ولا ما تتحدث به بعض وسائل الإعلام الأمريكية عن وجود 300 آخرين من قبل، فهذه الأعداد لن تقف عائقا أمام الاجتياح، لكن ما يقلقها أن لدى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) صورا التقطت بواسطة الأقمار الاصطناعية كشفت وجود صواريخ روسية من طراز “إس-300” تحيط بالعاصمة كاركاس.
وتدرك البنتاغون أن روسيا لم ترسل عسكرييها للقتال في غابات فنزويلا شبه الاستوائية، وإنما معظم الذين وصلوا إلى فنزويلا هم من المختصين بالصواريخ وسيجلسون خلف شاشات التحكم بإطلاق صواريخ “إس- 300” وغيرها من الصواريخ التي اشترتها فنزويلا من روسيا، وأن مهمة الجنرال تونكاشكوروف هي رسم خطط عسكرية وتدريب ضباط في الجيش الفنزويلي من أجل تنفيذها على الأرض في حال اندلاع عمليات قتالية.
ويبدو أن مرور 16 عاما على سقوط بغداد، وما تخللها من خلافات بين واشنطن وموسكو بسبب زحف قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوروبا شرقا باتجاة حدود روسيا الغربية، والخلافات في ملفي جورجيا وأوكرانيا وغيرها والعقوبات الاقتصادية الأمريكية وضغط واشنطن على بلدان الاتحاد الأوروبي لكي تحذو حذوها بحق روسيا، كانت كافية لتغييرالكرملين استراتيجيته في الدفاع عن مصالح البلاد القومية، وتولد قناعة لدى دوائر الحكم العليا في روسيا أن الخيار الوحيد الباقي أمام روسيا هو المواجهة.
كما يبدو أن الكرملين أراد من خلال إيفاد جنرالا يشغل منصب نائب قائد القوات البرية الروسية على رأس المجموعة العسكرية أن يبعث برسالة إلى الأمريكيين مفادها أن روسيا جادة في حماية مصالحها في العالم وأنها تجاوزت العقوبات الاقتصادية الغربية بحقها بعد أن تكيّف اقتصادها مع الوضع الجديد، ولا بد من تغيير قواعد اللعبة.