* منى فياض
أكثر ما تذكرني القضية المرفوعة ضد الشيخ محمد علي الحاج (العاملي) من قبل رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان بشخص الشيخ عبد الأمير قبلان والمفتي الشيخ أحمد قبلان عبر محاميهما معن الأسعد، برواية “شرف كاترينا بلوم المثلوم” لهاينريش بول.
تقدم المحامي معن الأسعد بالدعوى بوكالته عن المجلس الشيعي ودار الإفتاء! يدَّعي فيها على الشيخ محمد علي الحاج العاملي ويطالب باتخاذ قرار بمنعه من التعرض بالقدح والذم والتشهير بحق المدعيان وتغريمه مبلغ خمسين مليون ليرة عن كل أمر يقدم عليه في هذا الخصوص أمام كل ما هو مرئي ومسموع ومكتوب وكافة وسائل التواصل الاجتماعي.
ومما جاء في الدعوى أنه “أعطى آراء واستشارات حقوقية في مقابلة على برنامج “بدا ثورة” التلفزيوني، من دون أي صفة كونه ليس محاميا”.
يحصل ذلك على خلفية مطالبة الشيخ الحاج “بإجراء إصلاحات في المجلس الشيعي، وبعدم بيع المساجد والأوقاف، وباعتماد معايير قانونية للتوظيفات، وبأن تكون المؤسسة الدينية الشيعية لكل أبناء الطائفة”. (أثيرت ضجة في وسائل الإعلام حول بيع مسجد في بلدة أنصار (جنوب لبنان) وحول موظفي المجلس الذين بات معظمهم من آل قبلان).
والشيخ العاملي يتابع ملفات عدة تتعلق بارتكابات ومخالفات قانونية يُمارسها المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى؛ فعلى سبيل المثال لم تجر أي انتخابات منذ العام 1975 وأعاد رئيس المجلس تعيين نفسه بنفسه وهو فوق السن القانونية وتعيين ابنه كخلف له. وهي ممارسات لا تخضع للقوانين التي تحكم عمل مؤسسات المجلس بشكل عام، والإفتاء الجعفري والقضاء الجعفري بشكل خاص؛ والخاضعة جميعها للدولة اللبنانية والتي رصدت لها ولمثيلاتها مبالغ من ضرائب المكلف اللبناني بلغت عام 2018 (عام التقشف والإفلاس) أكثر من 29 مليار ونصف مليار ليرة لبنانية (نحو 20 مليون دولار أميركي)، ما يجعلها خاضعة للمساءلة والمحاسبة من قبل أي مواطن لبناني.
رد الشيخ محمد علي الحاج على الدعوى بقوله إن ما قدمه عرض وسرد موضوعي، مع إبداء رأي ومطالب إصلاحية، من دون نسبة أمور لأشخاص تمس بكرامتهم وشرفهم، وهذا أبسط الواجبات الشرعية والوطنية..
وهو يطالب منذ سنوات عدة بالكشف عن الحسابات المالية بما أن الشيخين قبلان يحتلان مناصب عامة في مؤسسة رسمية، فأقل الإيمان أن يتفهما بأنهما يقعان، كأي مسؤول، تحت حد النقد والمساءلة.. خصوصا متى تعلق الأمر بـ “رجال دين” مسؤوليتهم الدفاع عن الشرائع والقوانين.
وتابع: “نطرح بشكل خاص بيوعات الأوقاف، وفي هذا المجال ثمة مسألتان تؤكدان الفساد:
الأولى: نصّت المادة 174 من قانون الملكية العقارية على التالي:
“لا يجوز بيع العقار الموقوف ولا يجوز التنازل عنه لا مجانا ولا ببدل ولا انتقاله بطريق الإرث ولا يجوز رهنه أو إجراء تأمين عليه”.
وقد حصل بيع للعديد من المساجد والأوقاف… فهل المطلوب من القضاء أن يحمي بائعي الأوقاف أم الأوقاف؟
أما النقاط التي أثرناها في المقابلة التلفزيونية فنكررها ونؤكّد عليها:
– طالبنا مؤسسات الدولة الرقابية والنيابة العامة المالية التحرك لمحاسبة المتسببين بهدر المال العام.
ـ طالبنا بضرورة استثمار أموال الأوقاف في مواردها، والاهتمام بشؤون الفقراء والمساكين.
ـ طالبنا بإلغاء الوظائف التي لا طائل منها، حفاظا على المال العام، مثل وظيفة (مدرسي الفتوى) التي يشغلها عشرات الأشخاص من دون أن يكون لها أي صلاحية أو منفعة!
كما أثرنا قضية التهرب الجمركي المخالف لقرار وزير المالية رقم 1/1719 تاريخ 2003/11/24 في شروط استفادة مؤسسات الطوائف الدينية من الإعفاء الجمركي: “بأن تكون المواد مملوكة أو مقتناة من الطائفة، ومعدة لتحقيق الغايات الخاصة للطائفة…”.
ويقتضي التنويه أن دعوتي قدح وذم إضافيتين قد رفعتا ضد الشيخ الحاج ومن المنتظر أن تتوالى الدعاوى عليه؛ فالمطلوب على ما يبدو إغراقه بالدعاوى، لإرباكه وتوزيع جهوده وإغراقه بملاحقة المحاكم والمخافر. وهذا نوع من التنكيل المعنوي (Harassment) الذي يستنزف الشخص ويضعف قدراته ودفاعاته (رد قاضي الأمور المستعجلة في لبنان الدعوى، قبل يوم من نشر المقال، لعدم استنادها إلى أساس قانون سليم).
من هنا الإشارة إلى رواية “شرف كاترينا بلوم المثلوم” وكان بول حين أصدر روايته وضع لها عنوانا ثانويا هو: “كيف يمكن للعنف أن يتطور وإلى أين يمكنه أن يؤدي”. الرواية عن كاترينا، وهي سيدة بريئة دُمرت حياتها بفعل تضافر تكالب صحيفة الفضائح ورجال الشرطة عليها، بعد أن تبين أن الرجل الذي تحبه إنما هو سارق بنوك. فالصحيفة ورجال الشرطة، وكل منهم لهدف، تحالفوا موضوعيا ضد تلك الفتاة ليتهموها ظلما بالتواطؤ مع حبيبها على اعتبار أنها هي أيضا إرهابية مثله.
كتب هنرييش بول هذه الرواية ليظهر خصال البشر وسلوكياتهم التي لا تتبع دائما المبادئ أو الأخلاق. فمع وجود صحافة صفراء لا تبحث سوى عن الإثارة ومع جهات فاعلة من المؤسسات الرسمية والشرطة والقضاء تم تدمير حياة هذه المرأة. كما يتم تدمير حياة كل من يتجرأ على مواجهة الفساد. الرواية تبرز كيف يمكن تخريب الكلمات ومعانيها لحماية مصلحة معينة وكيف تتسبب بكثير من الضرر للغير.
ربما من غير المستغرب أن ترفع قضية ضد شيخ لم يفعل سوى أن انتقد، مدعما بالوثائق، أداء جهة دينية رسمية تلعب دورا سياسيا في حماية الثنائية الشيعية؛ في حين تغرق الدولة في معارك وسجالات ومواجهات غير مألوفة بين هيئات قضائية وأمنية في مشهد يلفه الغموض ويصعب إعطاؤه وصفا موضوعيا كما يهدد بانفلات عميم في بلد يغرق في الفوضى والفساد ويتراشق فيه السياسيون التهم خارج مجلس الوزراء ويمارسون عملهم داخله، ووزراء يهاجمون مصرف لبنان، والمصرف نفسه يحذّر من سياسات الحكومة. وتكشف الأجهزة الأمنية فسادا في القضاء، وقاض يدّعي على جهاز أمني، وسياسيون يهاجمون أجهزة أمنية، وأجهزة أمنية تتصرف بمعزل عن القرار السياسي!
مع ذلك يظل الخوف الأساسي في مثل هذه القضايا أن يعتبرها “البعض” مسـألة شخصية، لا تهم إلا المدّعى عليه. قضية الشيخ الحاج هي قضية رأي عام وهي جزء من واجب كل واحد منا لمواجهة الفساد؛ ولا ينبغي التخلي عن ضحايا الأجهزة كما حصل مع زياد عيتاني.
سبق لنوبواكي نوتوهارا أن اعتبر في كتابه “العرب من وجهة نظر يابانية” أن “الناس هنا لا يكترثون أو يشعرون بأي مسؤولية تجاه السجناء السياسيين، الأفراد الشجعان الذين ضحوا من أجل الشعب، ويتصرفون مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية وعلى أسرة السجين وحدها أن تواجه أعباءها”. وفي هذا برأيه أخطر مظاهر عدم الشعور بالمسؤولية. فحذار من اعتبار القضية مسألة لا تخص سوى المناضل الشيخ الذي أثارها.
الحرة