بيروت – – تمامًا مثلما لا يحتاج المرء إلى التمتُّع بالكثير من سمات النباهة لكي يدرك أنّ دول الارتصاف الأميركيّ – الأوروبيّ – الأطلسيّ لم تتوقَّف طيلة الأعوام الثلاثة الماضية عن القيام بالمحاولة تلو الأخرى من أجل إرباك القيادة الروسيّة وتحييد إبرة بوصلة حربها على الإرهاب في سوريا عن مسارها الصحيح، فإنّه لا يحتاج في الموازاة إلى التمتُّع بالسمات نفسها لكي يدرك أنّ ما أظهرته هذه القيادة من براعةٍ فائقةٍ في مجال إدارة الأزمات والحدّ من تداعياتها، بدءًا من نجاحها في عدم الانجرار إلى الفخّ المنصوب لها عن طريق الدخول في مواجهةٍ عسكريّةٍ مباشِرةٍ عبْر البوّابة التركيّة مع حلف شماليّ الأطلسيّ في سياق ردّ فعلها “المأمول” على قيام سلاح الجوّ التركيّ بإسقاط قاذفة الـ “سوخوي” عند تخوم الحدود السوريّة عام 2015، مرورًا بما شهدته الأعوام التالية من كرٍّ وفرٍّ جرّاء تراجع الولايات المتّحدة عن الكثير من تعهُّداتها مثل الانقضاض على اتّفاق “كيري – لافروف” من خلال قصف مواقع الجيش السوريّ في دير الزور، واستهداف مطار الشعيرات قرب مدينة حمص، وتوجيه ما عُرف بـ “الضربات الثلاثيّة” الأميركيّة – البريطانيّة – الفرنسيّة ضدّ العاصمة دمشق، ووصولًا إلى ملابسات حادثة إسقاط طائرة الـ “إيل 20” ومقتل طاقمها المؤلَّف من خمسة عشر عسكريًّا روسيًّا قبالة الساحل السوريّ ليل السابع عشر من شهر أيلول (سبتمبر) المنصرم، وهي البراعة التي لا يختلف اثنان من العاقلين على أنّ براغماتيّتها المشبَّعة بحسّ المسؤوليّة هي التي أسهمت إلى حدٍّ كبيرٍ في تجنيب العالم مخاطر الدخول في ثلاثِ حروبٍ كبرى على الأقلّ لغاية يومنا الراهن.
الخطّة الإسرائيليّة
وإذا كان ما تقدَّم لا يعدو عن كونه مجرَّدَ نقطةٍ في بحرِ الأمثلة المتعلِّقة بالأساليب والحيل غير النزيهة التي استخدمتها غالبية دول الارتصاف المذكور من أجل إيصال روسيا إلى مكانٍ لا أحد في قصر الكرملين يرغب في الوصول إليه، فإنّ ما كشفه موقع “ستراتيجيك كالتشر” اليوم الخميس من معلوماتٍ شيِّقةٍ حول تمكُّن موسكو من إفشالِ خطّةٍ إسرائيليّةٍ استهدفت إشعالَ حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ من بوّابة الشرق الأوسط، معطوفًا على الدور المثير للارتياب الذي لعبته الفرقاطة الفرنسيّة “أوفرين” في البحر الأبيض المتوسّط أثناء قيام الطيران الإسرائيليّ بشنّ غاراته الأخيرة على اللاذقيّة والتسبُّب بإسقاط طائرة الـ “إيل 20” الروسيّة، لا يعني بالضرورة أنّ تلك الأساليب والحيل سوف تتوقَّف بشكلٍ نهائيٍّ، علمًا أنّ مسألة الكشف بالصوت والصورة عن وصول المنظومة الدفاعيّة الصاروخيّة من طراز “إس 300” إلى سوريا نهار أمس الأربعاء سيؤدّي إلى لجمها وكبح جماحها بكلّ تأكيد.
وبحسب الموقع البحثيّ الذي يتّخذ من إستونيا مقرًّا له، فإنّ نجاح روسيا في إفشال الخطّة الإسرائيليّة شكَّل بداية النهاية لمسلسل الغارات التي درجت العادة على أن تشنّها مقاتلات الـ “إف 16” ضدّ أيِّ أهدافٍ ترى تلّ أبيب أنّها تابعةٌ لإيران وحلفائها في سوريا، ولا سيّما بعدما كان عدد هذه الغارات قد وصل خلال الأعوام الثلاثة الماضية فقط إلى أكثر من مئتيْ غارةٍ جوّيّةٍ، الأمر الذي لا بدّ من أن تخشاه إسرائيل في هذه الأثناء أكثر من أيِّ أمرٍ آخر بعدما باتت تُدرك إلى حدّ اليقين أنّ مقاتلاتها حُرِمت، ولو إلى حينٍ، من “ميزة” التحليق بحرّيّةٍ في السماء السوريّة.
الصواريخ الفرنسيّة
أمّا بالنسبة إلى الدور المثير للارتياب الذي لعبته الفرقاطة الفرنسيّة في البحر الأبيض المتوسّط الشهر الماضي، فيقول الموقع إنّ “إسرائيل نسَّقت مع فرنسا للقيام بقصف عدّةِ أهدافٍ داخل سوريا بعلم أميركا، ولكن من دون مشاركتها”، مشيرًا إلى أنّ هذه الخطوة كان من المنتظر أن تؤدّي إلى “استفزاز روسيا وجعلها تُقدِم على ردِّ فعلٍ وقتيٍّ بمهاجمة الفرقاطة التي دعمت الهجوم الجوّيّ الإسرائيليّ”، ولافتًا إلى أنّه “لو كانت إسرائيل لا تملك نوايا شرّيرةً لأعطت روسيا أكثر من دقيقةٍ حتّى يتمّ تأمين هبوط طائرة الاستطلاع (إيل 20) التي تمّ إسقاطها خلال الهجوم”، وموضِحًا في نهاية المطاف، وهنا الأهمّ، أنّه “لو هاجمت روسيا الفرقاطة الفرنسيّة، لكان ذلك هجومًا على عضوٍ في حلف شماليّ الأطلسيّ بصورةٍ تجعل دعاة الحرب في واشنطن يطالبون بتفعيل البند الخامس للحلف الذي أعلن الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب في وقتٍ سابقٍ التزام بلاده به، وهو ما يعني حدوث تصعيدٍ جديدٍ في سوريا ربّما يقود إلى حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ”، على حدّ تعبير الموقع الإستونيّ.
التوازنات الجديدة
ومهما يكن من أمر، ومع الأخذ في الاعتبار وجوب التذكير بأنّ إسرائيل لم تُبلِّغ قيادة مجموعة القوّات الروسيّة في سوريا عن عمليّتها المخطَّط لها في اللاذقيّة، وأنّه تمّ استلام إشعارٍ عبر “الخطّ الساخن” قبل أقلّ من دقيقةٍ واحدةٍ من الهجوم، الأمر الذي لم يسمح بإبعاد طائرة الـ “إيل 20” إلى منطقةٍ آمنةٍ، وأنّه من غير الممكن لوسائل مراقبة الطيران الإسرائيليّة وطيّاري الـ “إف 16” عدم رؤية تلك الطائرة المنكوبة لدى استعدادها للهبوط من ارتفاع خمسةِ كيلومتراتٍ فقط، فإنّ أكثر ما يبدو واضحًا في الوقت الراهن هو أنّ التوازنات الشرق أوسطيّة التي كانت قائمةً لصالح الإسرائيليّين قبل السابع عشر من الشهر المنصرم لن تبقى على حالها بأيِّ شكلٍ من الأشكال بعد ذلك التاريخ، ولا سيّما بعدما بات في حُكم المؤكَّد أنّ الترجمة العمليّة لتقييم وزارة الدفاع الروسيّة للحادث المؤلم الآنف الذكر على أساس أنّه “عملٌ عدوانيٌّ يُتيح لموسكو الاحتفاظ بحقّ الردّ” سرعان ما بدأت بالظهور اعتبارًا من اللحظة التي بثَّت فيها قناة “زفيزدا” التلفزيونيّة البارحة ذلك الفيديو الذي يُظهر لحظة إخراج منظومة الـ “إس 300” من طائرة “إن 124 – روسلان” على الأراضي السوريّة، وذلك بعد مرورِ يومٍ واحدٍ على قيام وزير الدفاع سيرغي شويغو بإبلاغ الرئيس فلاديمير بوتين وأعضاء مجلس الأمن القوميّ بأنّ روسيا سلَّمت سوريا تسعًا وأربعينَ قطعةً من معدّات المنظومة بما فيها أربعُ منصّاتٍ لإطلاق الصواريخ… وحسبي أنّ هذا الردّ الروسيّ ما هو إلّا نقطة ارتكازٍ جديدةٍ لا بدّ من أن تُبنى عليها في المستقبل ملامح نظامٍ عالميٍّ جديدٍ متعدِّد الأقطاب، وفقًا لما دعا إليه الرئيس بوتين لدى تسلُّمه مقاليد الحكم قبل ثمانية عشر عامًا من الزمان، وإنّما عبْر البوّابة الشرق أوسطيّة هذه المرّة، ولا سيّما بعدما علَّمتنا التجارب السابقة أنّ هذا الرجل غالبًا ما يُقرن القول بالفعل… والخير دائمًا من وراء القصد.